لما بين تعالى كيفية عقوبة أولئك الكفار في الدنيا ، أردفه بكيفية عقوبة الكفار أولئك وغيرهم . وانتصب ( يوم ) بـ ( اذكر ) . وقرأ الجمهور : ( يحشر ) مبنيا للمفعول ، و ( أعداء ) رفعا ، ، وزيد بن علي ونافع ، ، وأهل والأعرج المدينة : بالنون ، ( أعداء ) نصبا ، وكسر الشين . الأعرج
وتقدم معنى ( يوزعون ) في النمل ، و ( حتى ) غاية لـ ( يحشروا ) ( أعداء الله ) : هم الكفار من الأولين والآخرين ، و ( ما ) بعد إذا زائدة للتأكيد .
وقال : ومعنى التأكيد فيها أن وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم ، ولا وجه لأن يخلو منها ومثله قوله : ( الزمخشري أثم إذا ما وقع آمنتم به ) أي : لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به . انتهى .
ولا أدري أن معنى زيادة ( ما ) بعد ، ( إذا ) التوكيد فيها ، ولو كان التركيب بغير ( ما ) ، كان بلا شك حصول الشرط من غير تأخر ؛ لأن أداة الشرط ظرف ، فالشهادة واقعة فيه لا محالة ، وفي الكلام حذف ، التقدير : ( حتى إذا ما جاءوها ) ، أي : النار ، وسئلوا عما أجرموا فأنكروا ، ( شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم ) بما اكتسبوا من الجرائم ، وكانوا حسبوا أن لا شاهد عليهم .
ففي الحديث : " أن أول ما ينطق من الإنسان فخذه اليسرى ، ثم تنطق الجوارح فيقول : تبا لك ، وعنك كنت أدافع " .
ولما كانت الحواس خمسة : السمع والبصر والشم والذوق واللمس ، وكان الذوق مندرجا في اللمس ، إذ بمماسة جلدة اللسان والحنك للمذوق يحصل إدراك المذوق ، وكان حسن الشم ليس فيه تكليف ولا أمر ولا نهي ، وهو ضعيف ، اقتصر من الحواس على السمع والبصر واللمس ، إذ هذه هي التي جاء فيها التكليف ، ولم يذكر حاسة الشم ؛ لأنه لا تكليف فيه ، فهذه - والله أعلم - حكمة الاقتصار على هذه الثلاثة .
والظاهر أن الجلود هي المعروفة . وقيل : هي الجوارح كنى بها عنها . وقيل : كنى بها عن الفروج .
قيل : وعليه أكثر المفسرين ، منهم ، كما [ ص: 493 ] كنى عن النكاح بالسر . ابن عباس
( بما كانوا يعملون ) من الجرائم .
ثم سألوا جلودهم عن سبب شهادتها عليهم ، فلم تذكر سببا غير أن الله تعالى أنطقها .
ولما صدر منها ما صدر من العقلاء ، وهي الشهادة ، خاطبوها بقولهم : ( لم شهدتم علينا ) ؟ مخاطبة العقلاء .
وقرأ زيد بن علي : ( لم شهدتن ) ؟ بضمير المؤنثات ؟ و ( كل شيء ) : لا يراد به العموم ، بل المعنى : كل ناطق بما ذلك له عادة ، أو كان ذلك فيه خرق عادة .
وقال : أراد بـ ( كل شيء ) : كل شيء من الحيوان ، كما أراد به في قوله : ( الزمخشري والله على كل شيء قدير ) ، من المقدورات . والمعنى : أن نطقنا ليس بعجب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كل حيوان ، وعلى خلقكم وإنشائكم ، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه ، وإنما قالوا لهم : ( لم شهدتم علينا ) لتعاظمهم من شهادتها وكبر عليهم من الافتضاح على ألسنة جوارحهم .
وقال أيضا : ( فإن قلت ) : كيف تشهد عليهم أبصارهم وكيف تنطق ؟ ( قلت ) : الله - عز وجل - ينطقها ، كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلام . انتهى ، وهذا الرجل مولع بمذهبه الاعتزالي ، يدخله في كل ما يقدر أنه يدخل . الزمخشري
وإنما أشار بقوله : كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلاما إلى أن الله تعالى لم يكلم موسى حقيقة ، وإنما الشجرة هي التي سمع منها الكلام بأن يخلق الله فيها كلاما خاطبته به عن الله تعالى .
والظاهر أن قوله : ( وما كنتم تستترون ) من كلام الجوارح ، قيل : ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى توبيخا لهم ، أو من كلام ملك يأمره تعالى . و ( أن يشهد ) : يحتمل أن يكون معناه : خيفة أو لأجل أن يشهد إن كنتم غير عالمين بأنها تشهد ، ( ولكن ظننتم أن الله لا يعلم ) ، فانهمكتم وجاهدتم ، وإلى هذا نحا مجاهد ، والستر يأتي في هذا المعنى ، كما قال الشاعر :
والستر دون الفاحشات وما يلقاك دون الخير من ستر
ويحتمل أن يكون معناه : عن أن يشهد ، أي : وما كنتم تمتنعون ، ولا يمكنكم الاختفاء عن أعضائكم والاستتار عنها بكفركم ومعاصيكم ، ولا تظنون أنها تصل بكم إلى هذا الحد من الشهادة عليكم .
وإلى هذا نحا ، أو ما كنتم تتوقعون بالاختفاء والستر أن يشهد عليكم ؛ لأن الجوارح لزيمة لكم . السدي
وعبر قتادة عن ( تستترون ) بتظنون ، أي : وما كنتم تظنون أن يشهد ، وهذا تفسير من حيث المعنى لا من حيث مرادفة اللفظ ، ( ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا ) ، وهو الخفيات من أعمالكم ، وهذا الظن كفر وجهل بالله وسوء معتقد يؤدي إلى تكذيب الرسل والشك في علم الإله .
( وذلكم ) : إشارة إلى ظنهم أن الله لا يعلم كثيرا من أعمالهم ، وهو مبتدأ خبره ( أرداكم ) ، و ( ظنكم ) بدل من ( ذلكم ) أي : وظنكم بربكم ذلكم أهلككم .
وقال : و ( ظنكم ) و ( أرداكم ) خبران . وقال الزمخشري ابن عطية : ( أرداكم ) يصلح أن يكون خبرا بعد خبر . انتهى .
ولا يصح أن يكون ظنكم بربكم خبرا ؛ لأن قوله : ( وذلكم ) إشارة إلى ظنهم السابق ، فيصير التقدير : وظنكم بأن ربكم لا يعلم ظنكم بربكم ، فاستفيد من الخبر ما استفيد من المبتدأ ، وهو لا يجوز ; وصار نظير ما منعه النحاة من قولك : سيد الجارية مالكها .
وقال ابن عطية : وجوز الكوفيون أن يكون معنى ( أرداكم ) في موضع الحال ، والبصريون لا يجيزون وقوع الماضي حالا إلا إذا اقترن بـ ( قد ) ، وقد يجوز تقديرها عندهم إن لم يظهر . انتهى .
وقد أجاز الأخفش من البصريين وقوع الماضي حالا بغير تقدير قد وهو الصحيح ، إذ كثر ذلك في لسان العرب كثرة توجب القياس ، ويبعد فيها التأويل ، وقد ذكرنا كثرة الشواهد على ذلك في كتابنا المسمى ( بالتذييل والتكميل في شرح التسهيل ) .
( فإن يصبروا ) : خطاب للنبي - عليه السلام - قيل : وفي الكلام حذف تقديره : أو لا يصبروا ، كقوله : ( فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم ) ، وذلك في يوم القيامة .
وقيل : التقدير : فإن يصبروا على ترك دينك واتباع أهوائهم ، ( فالنار مثوى لهم ) أي : مكان إقامة . وقرأ الجمهور : ( وإن يستعتبوا ) مبنيا للفاعل ، ( فما هم من المعتبين ) .
[ ص: 494 ] اسم مفعول . قال الضحاك : إن يعتذروا فما هم من المعذورين .
وقيل : وإن طلبوا العتبى ، وهي الرضا ، فما هم ممن يعطاها ويستوجبها .
وقرأ الحسن ، ، وعمرو بن عبيد وموسى الأسواري : ( وإن يستعتبوا ) : مبنيا للمفعول ، فما هم من المعتبين : اسم فاعل ، أي : طلب منهم أن يرضوا ربهم ، فما هم فاعلون ، ولا يكون ذلك لأنهم قد فارقوا الدنيا دار الأعمال .
كما قال : " ليس بعد الموت مستعتب " . وقال أبو ذؤيب :
أمن المنون وريبها تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
ويحتمل أن تكون هذه القراءة بمعنى : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه .
ولما ذكر تعالى الوعيد الشديد في الدنيا والآخرة على كفر أولئك الكفرة ، أردفه بذكر السبب الذي أوقعهم في الكفر ، فقال : ( وقيضنا لهم قرناء ) أي : سببنا لهم من حيث لم يحتسبوا .
وقيل : سلطنا ووكلنا عليهم . وقيل : قدرنا لهم . وقرناء : جمع قرين ، أي : قرناء سوء من غواة الجن والإنس ; ( فزينوا لهم ) أي : حسنوا وقدروا في أنفسهم ; ( ما بين أيديهم ) ، قال : من أمر الآخرة ، أنه لا جنة ولا نار ولا بعث . ابن عباس
( وما خلفهم ) ، قال : من أمر الدنيا ، من الضلالة والكفر ولذات الدنيا . وقال ابن عباس الكلبي : ( ما بين أيديهم ) : أعمالهم التي يشاهدونها ، ( وما خلفهم ) : ما هم عاملوه في المستقبل .
وقال ابن عطية : ( ما بين أيديهم ) ، من معتقدات السوء في الرسل والنبوات ومدح عبادة الأصنام ، واتباع فعل الآباء ، ( وما خلفهم ) : ما يأتي بعدهم من أمر القيامة والمعاد . انتهى ، ملخصا ، وهو شرح قول الحسن ، قال : ( ما بين أيديهم ) من أمر الدنيا ، ( وما خلفهم ) من أمر الآخرة .
وقال : ( فإن قلت ) : كيف جاز أن يقيض لهم القرناء من الشياطين ، وهو ينهاهم عن اتباع خطواتهم ؟ ( قلت ) : معناه أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر ، فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين ، والدليل عليه : ( الزمخشري ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا ) . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال .
( وحق عليهم القول ) أي : كلمة العذاب ، وهو القضاء المحتم ، بأنهم معذبون .
( في أمم ) أي : في جملة أمم ، وعلى هذا قول الشاعر :
إن تك عن أحسن الصنيعة مأفو كا ففي آخرين قد أفكوا
أي : فأنت في جملة آخرين ، أو فأنت في عدد آخرين ، لست في ذلك بأوحد .
وقيل : في بمعنى مع ، ولا حاجة للتضمين مع صحة معنى في . وموضع ( في أمم ) نصب على الحال ، أي : كائنين في جملة أمم ، وذو الحال الضمير في ( عليهم ) .
( إنهم كانوا خاسرين ) : الضمير لهم وللأمم ، وهذا تعليل لاستحقاقهم العذاب .
( وقال الذين كفروا لا تسمعوا ) أي : لا تصغوا ، ( لهذا القرآن والغوا فيه ) : إذا تلاه محمد - صلى الله عليه وسلم - .
قال أبو العالية : وقعوا فيه وعيبوه . وقال غيره : كان الرسول عليه السلام إذا قرأ في المسجد أصغى إليه الناس من مؤمن وكافر ، فخشي الكفار استمالة القلوب بذلك فقالوا : متى قرأ محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فلنلغط نحن بالمكاء والصفير والصياح وإنشاد الشعر والأرجاز حتى يخفى صوته ، وهذا الفعل هو اللغو .
وقرأ الجمهور : بفتح الغين مضارع لغي بكسرها ; والفراء وبكر بن حبيب السهمي كذا في كتاب ابن عطية ، وفي كتاب اللوامح .
وأما في كتاب ابن خالويه ، فعبد الله بن بكر السهمي ، وقتادة ، وأبو حيوة ، والزعفراني ، وابن أبي إسحاق وعيسى : بخلاف عنهما ، بضم الغين مضارع لغى بفتحها ، وهما لغتان ، أي : أدخلوا فيه اللغو ، وهو اختلاف القول بما لا فائدة فيه .
وقال الأخفش : يقال لغا يلغى بفتح الغين وقياسه الضم ، لكنه فتح لأجل حرف الحلق ، فالقراءة الأولى من يلغي . والثانية من يلغو .
وقال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون الفتح من لغى بالشيء يلغى به إذا رمى به ، فيكون ( فيه ) بمعنى به ، أي : ارموا به وانبذوه .
( لعلكم تغلبون ) : [ ص: 495 ] أي : تطمسون أمره وتميتون ذكره .
( فلنذيقن الذين كفروا ) : وعيد شديد لقريش ، والعذاب الشديد في الدنيا كوقعة بدر وغيرها ، والأسوأ يوم القيامة .
أقسم تعالى على الجملتين ، وشمل الذين كفروا القائلين والمخاطبين في قوله : ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا ) .
( ذلك ) أي : جزاؤهم في الآخرة ، فالنار بدل أو خبر مبتدأ محذوف . وجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر ذلك ، و ( جزاء ) مبتدأ و ( النار ) خبره .
( فيها دار الخلد ) أي : فكيف قيل فيها ؟ والمعنى أنها دار الخلد ، كما قال تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة ) ، والرسول نفسه هو الأسوة ، وقال الشاعر :
وفي الله إن لم ينصفوا حكم عدل
والمعنى أن الله هو الحكم العدل
ومجاز ذلك أنه قد يجعل الشيء ظرفا لنفسه ، باعتبار متعلقه على سبيل المبالغة ، كأن ذلك المتعلق صار الشيء مستقرا له ، وهو أبلغ من نسبة ذلك المتعلق إليه على سبيل الإخبارية عنه .
( جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون ) ، قال : إن جزاءهم بما كانوا يلغون فيها ، فذكر الجحود الذي هو سبب اللغو . ولما رأى الكفار عظم ما حل بهم من عذاب النار ، سألوا من الله تعالى أن يريهم من كان سبب إغوائهم وإضلالهم . والظاهر أن ( ، اللذين ) يراد بهما الجنس ، أي : كل مغو من هذين النوعين ، وعن الزمخشري علي ، وقتادة : أنهما إبليس وقابيل ، إبليس سن الكفر ، وقابيل سن القتل بغير حق .
قيل : وهل يصح هذا القول عن علي : وقابيل مؤمن عاص ، وإنما طلبوا المضلين بالكفر المؤدي إلى الخلود ، وقد أصلح هذا القول بأن قال : طلب قابيل كل عاص من أهل الكبائر ، وطلب إبليس كل كافر ، ولفظ الآية ينبو عن هذا القول وعن إصلاحه ، وتقدم الخلاف في قراءة ( أرنا ) في قوله : ( وأرنا مناسكنا ) .
وقال : حكوا عن الخليل أنك إذا قلت : أرني ثوبك بالكسر ، فالمعنى : بصرنيه ، وإذا قلته بالسكون ، فهو استعطاء معناه : أعطني ثوبك ; ونظيره اشتهار الإيتاء في معنى الإعطاء ، وأصله الإحضار . انتهى . الزمخشري
( نجعلهما تحت أقدامنا ) : يريدون في أسفل طبقة من النار ، وهي أشد عذابا ، وهي درك المنافقين .
وتشديد النون في ، اللذين واللتين وهذين وهاتين حالة كونهما بالياء لا تجيزه البصريون ، والقراءة بذلك في السبعة حجة عليهم .