هذه الآيات الثلاث في بيان ، والحث عليها وعلى التوبة لمن قصر في الجهاد في سبيل الله بماله ونفسه ، أو في غير ذلك من أمور دينه . وفي الحث على العمل ، وكونه هو الذي عليه المعول . فوائد صدقة الأموال ومنافعها
أخرج ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة أن أبا لبابة وأصحابه جاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أطلقوا فقالوا : يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا ، فقال : ( ( ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا ) ) فأنزل الله : ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) وأخرج مثله عنه من طريق محمد بن سعد عن آبائه وزاد : فلما نزلت هذه الآية أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جزءا من أموالهم فتصدق بها عنهم وله في سبب النزول روايات أخرى . وهذا النص حكمه عام وإن كان سببه خاصا ، عام في الآخذ يشمل خلفاء الرسول من بعده ومن بعدهم من أئمة المسلمين ، وفي المأخوذ منهم وهم المسلمون الموسرون ، قال العماد بن كثير : وهذا عام وإن عاد الضمير في : ( أموالهم ) إلى الذين اعترفوا بذنوبهم وخلطوا عملا صالحا وآخر سيئا . ولهذا اعتقد بعض مانعي الزكاة [ ص: 20 ] من أحياء العرب أن دفع الزكاة إلى الإمام لا يكون ، وإنما كان هذا خاصا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - واحتجوا بقوله تعالى : ( خذ من أموالهم صدقة ) الآية . وقد رد عليهم هذا التأويل والفهم الفاسد وسائر أبو بكر الصديق الصحابة - رضي الله عنهم - وقاتلوهم حتى أدوا الزكاة إلى الخليفة كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . حتى قال : والله لو منعوني عناقا - وفي رواية عقالا - كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأقاتلنهم على منعه . انتهى . وهذا مشهور في الصحاح والسنن والسير ومجمع عليه ، وهاك معنى الآية . الصديق
( خذ من أموالهم صدقة ) أي خذ أيها الرسول من أموال من ذكر ، ومن سائر أموال المؤمنين - على اختلاف أنواعها ، ومنها مال التجارة - صدقة معينة كالزكاة المفروضة أو غير معينة وهي التطوع - فالصدقة ما ينفقه المؤمن قربة لله كما تقدم في نفقة مؤمني الأعراب ( تطهرهم وتزكيهم بها ) أي تطهرهم بها من دنس البخل والطمع والدناءة والقسوة على الفقراء البائسين وما يتصل بذلك من الرذائل ، وتزكي أنفسهم بها : أي تنميها وترفعها بالخيرات والبركات الخلقية والعملية حتى تكون بها أهلا للسعادة الدنيوية والأخروية ، فالمطهر هنا الرسول والمطهر به الصدقة . والتزكية صيغة مبالغة من الزكاء وهو نماء الزرع ونحوه ، قال في مجاز الأساس : رجل زكي زائد الخير والفضل بين الزكاء والزكاة ، ( وحنانا من لدنا وزكاة ) ( 19 : 13 ) ا هـ .
والتزكية للأنفس بالفعل تسند إلى الله تعالى ; لأنه هو الخالق المقدر الموفق للعبد لفعل ما تزكو به نفسه وتصلح ، قال تعالى : ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء ) 2 ( 4 : 21 ) وتسند إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه هو المربي للمؤمنين على ما تزكو به أنفسهم ، ويعلو قدرها بسنته العملية والقولية في بيان كتاب الله ، وما لهم فيه من الأسوة الحسنة ومنه هذه الآية ، وقال تعالى : ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) ( 62 : 2 ) فتزكيته - صلى الله عليه وسلم - للأمة من مقاصد البعثة وتسند إلى العبد لكونه هو الفاعل لما جعله الله سببا لطهارة نفسه وزكائها كالصدقات وغيرها من أعمال البر ومنه قوله تعالى : ( قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) ( 91 : 9 ، 10 ) وقوله : ( قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى ) ( 87 : 14 و 15 ) وأما قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ) ( 4 : 49 ) وقوله ( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ) ( 53 : 32 ) فهو في زكاء النفس بدعوى اللسان ، فالتزكية تطلق على الفعل المزكى وهي الأصل وعلى القول الدال عليه ، ومنه تزكية الشهود .
[ ص: 21 ] ( وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ) قرأ حمزة والكسائي وحفص : ( صلاتك ) بالمفرد أي جنسها والباقون : ( صلواتك ) بالجمع وهو باعتبار جماعة المتصدقين . والصلاة اسم من صلى يصلي تصلية ، وقد هجر لفظ التصلية في الإسلام ، ومنه :
تركت الدنان وعزف القيان وأدمنت تصلية وابتهالا
.ومعناها الأصلي الدعاء ، وهو المراد من الآية ، وسميت العبادة الإسلامية المخصوصة صلاة من تسمية الشيء بأهم أجزائه ، فإن الدعاء مخ العبادة وروحها ، وقيل في التعليل غير ذلك . والصلاة من الله على عباده الرحمة والحنان ، ومن ملائكته الدعاء والاستغفار ، قال تعالى : ( هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما ) ( 33 : 43 ) ثم قال : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) ( 33 : 56 ) وصلاتنا على نبينا - صلى الله عليه وسلم - دعاؤنا له بما أمرنا به في الصلاة بعد التشهد الأخير ، وما في معناه كقولنا في دعاء الأذان المأثور : ( ( محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته ) ) رواه الجماعة إلا مسلما ، والسكن : ما تسكن إليه النفس وترتاح من أهل ومال ومتاع وثناء . اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت
والمعنى ادع أيها الرسول للمتصدقين واستغفر لهم عاطفا عليهم : إن دعاءك واستغفارك سكن لهم ، يذهب به اضطراب أنفسهم إذا أذنبوا ، وتطمئن قلوبهم بأن تقبل توبتهم إذا تابوا ويرتاحون إلى قبول الله صدقاتهم بأخذك لها ، ووضعك إياها في مواضعها ( والله سميع عليم ) أي سميع لدعائك سماع قبول وإجابة ، عليم بما فيه من الخير والمصلحة ، فالمراد من السماع والعلم لازمهما . وسميع لاعترافهم بذنوبهم ، عليم بندمهم وتوبتهم منها ، وبإخلاصهم في صدقتهم وطيب أنفسهم بها ، فهو الذي يثيبهم عليها ، فجملة ( إن صلاتك ) تعليل للأمر بالدعاء ، وتذييلها بالتذكير بسمع الله وعلمه إشعار بقبول الدعاء وقبول الطاعات والجزاء عليها ، وتصرح به الآية التالية .
روى الشيخان من حديث قال : عبد الله بن أبي أوفى آل أبي أوفى ) ) فقوله : بصدقته صريح في أن المراد بها زكاة الفريضة ، وهو يدل على أن المراد بالآية صدقة الفريضة أو ما يعم الفريضة وغيرها ، وعلى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مواظبا على هذا الدعاء ; ولذلك قيل إن الأمر في الآية للوجوب وهو خاص به - صلى الله عليه وسلم - وقال بعض كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : ( ( اللهم صل على فلان ) ) فأتاه أبي بصدقته فقال : ( ( اللهم صل على الظاهرية بوجوب الدعاء على آخذي الزكاة من الأئمة أيضا ، والجمهور على أنه مستحب لهم . وقد بوب للحديث بقوله : ( باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة ) ، وقوله تعالى : ( ( البخاري خذ من أموالهم صدقة ) ) - إلى قوله : - ( ( سكن لهم ) ) والجمهور [ ص: 22 ] على أن الدعاء بلفظ الصلاة خاص بدعائه - صلى الله عليه وسلم - لغيره وبدعاء المسلمين له ، وقيد الأول بعض العلماء بما عدا هذا اللفظ الذي كان يدعو به للمتصدقين ( ( اللهم صل على فلان ) ) عند إعطاء الصدقة . وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو بغيره أيضا فقد روى من حديث النسائي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في رجل بعث بناقة حسنة في الزكاة ( ( اللهم بارك فيه وفي إبله ) ) وقال وائل بن حجر : السنة الشافعي ويقول : آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت . للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق
والأفضل الجمع بين الصلاة والسلام عليه - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله ، وأكثر المسلمين يخص بالسلام الأنبياء والملائكة ، وكذا جماعة آل بيته - صلى الله عليه وسلم - ، والشيعة يلتزمون السلام على السيدة فاطمة وبعلها وولديهما والأئمة المشهورين من ذرية السبطين ، ويوافقهم كثير من أهل السنة وغيرهم في الزهراء والسبطين ووالدهما سلام الله ورضوانه عليهم إذا ذكروا جماعة أو أفرادا ، وأما الصلاة والسلام على الآل بالتبع للرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو مجمع عليه ، ومنه صلاة التشهد ، وكذا عطف الصحابة والتابعين على الآل ذائع في الكتب والخطب والأقوال .