الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : لقي عيسى ابن مريم إبليس ، فقال : أما علمت أنه لن يصيبك إلا ما كتب لك ؟ قال إبليس : فارق بذروة هذا الجبل ، فترد منه فانظر تعيش أم لا ؟ فقال ابن طاوس ، عن أبيه : فقال عيسى : أما علمت أن الله قال : لا يجربني عبدي ، فإني أفعل ما شئت .

            وقال الزهري : إن العبد لا يبتلي ربه ، ولكن الله يبتلي عبده .

            وعن طاوس قال : أتى الشيطان عيسى ابن مريم ، فقال : أليس تزعم أنك صادق ؟ فأت هذه فألق نفسك . قال : ويلك! أليس قال : يا ابن آدم ، لا تسألني هلاك نفسك ، فإني أفعل ما أشاء .

            وعن خالد بن يزيد ، قال : تعبد الشيطان مع عيسى عشر سنين أو سنتين ، أقام يوما على شفير جبل ، فقال الشيطان : أرأيت إن ألقيت نفسي ، هل يصيبني إلا ما كتب لي ؟ قال : إني لست بالذي أبتلي ربي ولكن ربي إذا شاء ابتلاني . وعرف أنه الشيطان ، ففارقه .

            وعن أبي عثمان ، قال : كان عيسى ، عليه السلام ، يصلي على رأس جبل فأتاه إبليس فقال : أنت الذي تزعم أن كل شيء بقضاء وقدر ؟ قال : نعم . قال : ألق نفسك من هذا الجبل وقل : قدر علي . فقال : يا لعين ، الله يختبر العباد ، وليس العباد يختبرون الله ، عز وجل . وقال أيضا : وعن سفيان بن عيينة قال : لقي عيسى ابن مريم إبليس ، فقال له إبليس : يا عيسى ابن مريم ، أنت الذي بلغ من عظم ربوبيتك أنك تكلمت في المهد صبيا ، ولم يتكلم فيه أحد قبلك . قال : بل الربوبية للإله الذي أنطقني ، ثم يميتني ، ثم يحييني . قال : فأنت الذي بلغ من عظم ربوبيتك أنك تحيي الموتى . قال : بل الربوبية لله الذي يحيي ويميت من أحييت ثم يحييه . قال : والله إنك لإله في السماء وإله في الأرض . قال : فصكه جبريل صكة بجناحه فما تناهى دون قرون الشمس ، ثم صكه أخرى بجناحه فما تناهى دون العين الحامية ، ثم صكه أخرى فأدخله بحار السابعة فأساخه - وفي رواية : فأسلكه - فيها حتى وجد طعم الحمأة ، فخرج منها وهو يقول : ما لقي أحد من أحد ما لقيت منك يا ابن مريم .

            . وعن أبو سلمة سويد ، عن بعض أصحابه ، قال : صلى عيسى ببيت المقدس فانصرف ، فلما كان ببعض العقبة ، عرض له إبليس فاحتبسه ، فجعل يعرض عليه ويكلمه ويقول له : إنه لا ينبغي لك أن تكون عبدا . فأكثر عليه ، وجعل عيسى يحرص على أن يتخلص منه ، فجعل لا يتخلص منه ، فقال له فيما يقول : لا ينبغي لك يا عيسى أن تكون عبدا . قال : فاستغاث عيسى بربه ، فأقبل جبريل وميكائيل ، فلما رآهما إبليس كف ، فلما استقرا معه على العقبة ، اكتنفا عيسى ، وضرب جبريل إبليس بجناحه ، فقذفه في بطن الوادي . قال : فعاد إبليس معه ، وعلم أنهما لم يؤمرا بغير ذلك ، فقال لعيسى : قد أخبرتك أنه لا ينبغي أن تكون عبدا ، إن غضبك ليس بغضب عبد ، وقد رأيت ما لقيت منك حين غضبت ، ولكن أدعوك إلى أمر هو لك ; آمر الشياطين فليطيعوك ، فإذا رأى البشر أن الشياطين أطاعوك ، عبدوك ، أما إني لا أقول أن تكون إلها ليس معه إله ، ولكن الله يكون إلها في السماء ، وتكون أنت إلها في الأرض . فلما سمع عيسى ذلك منه ، استغاث بربه وصرخ صرخة شديدة ، فإذا إسرافيل قد هبط ، فنظر إليه جبريل وميكائيل ، فكف إبليس ، فلما استقر معهم ضرب إسرافيل إبليس بجناحه ، فصك به عين الشمس ، ثم ضربه ضربة أخرى ، فأقبل إبليس يهوي ، ومر بعيسى وهو بمكانه ، فقال : يا عيسى ، لقد لقيت فيك اليوم تعبا شديدا . فرمى به في عين الشمس ، فوجد سبعة أملاك عند العين الحامية . قال : فغطوه ، فجعل كلما خرج غطوه في تلك الحمأة . قال : والله ما عاد إليه بعد .

            قال : وعن أبي حذيفة ، قال : واجتمع إليه شياطينه ، فقالوا : سيدنا ، قد لقيت تعبا . قال : إن هذا عبد معصوم ، ليس لي عليه من سبيل ، وسأضل به بشرا كثيرا ، وأبث فيهم أهواء مختلفة ، وأجعلهم شيعا ، ويجعلونه وأمه إلهين من دون الله . قال : وأنزل الله فيما أيد به عيسى وعصمه من إبليس قرآنا ناطقا بذكر نعمته على عيسى ، فقال : ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس يعني : إذ قويتك بروح القدس 72 ، يعني جبريل تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب يعني الإنجيل والتوراة والحكمة ، وإذ كففت بني إسرائيل عنك [ المائدة : 110 ] . وإذ جعلت المساكين لك بطانة وصحابة وأعوانا ترضى بهم ، وصحابة وأعوانا يرضون بك هاديا وقائدا إلى الجنة ، فذلك - فاعلم - خلقان عظيمان ، من لقيني بهما فقد لقيني بأزكى الخلائق وأرضاها عندي ، وسيقول لك بنو إسرائيل : صمنا فلم يتقبل صيامنا ، وصلينا فلم يقبل صلاتنا ، وتصدقنا فلم يقبل صدقاتنا ، وبكينا بمثل حنين الجمال فلم يرحم بكاءنا . فقل لهم : ولم ذلك ؟ وما الذي يمنعني ، أن ذات يدي قلت ؟! أوليس خزائن السماوات والأرض بيدي أنفق منها كيف أشاء ، أو أن البخل يعتريني ؟ أولست أجود من سئل وأوسع من أعطى ؟ أو أن رحمتي ضاقت ؟ وإنما يتراحم المتراحمون بفضل رحمتي ، ولولا أن هؤلاء القوم ، يا عيسى ابن مريم ، عدوا أنفسهم بالحكمة التي تورث في قلوبهم ما استأثروا به الدنيا أثرة على الآخرة ، لعرفوا من أين أتوا ، وإذا لأيقنوا أن أنفسهم هي أعدى الأعداء لهم ، وكيف أقبل صيامهم وهم يتقوون عليه بالأطعمة الحرام ؟! وكيف أقبل صلاتهم وقلوبهم تركن إلى الذين يحاربوني ويستحلون محارمي ؟! وكيف أقبل صدقاتهم وهم يغصبون الناس عليها ، فيأخذونها من غير حلها ؟! يا عيسى ، إنما أجزي عليها أهلها ، وكيف أرحم بكاءهم وأيديهم تقطر من دماء الأنبياء ، ازددت عليهم غضبا ، يا عيسى ، وقضيت يوم خلقت السماوات والأرض أنه من عبدني وقال فيكما بقولي ، أن أجعلهم جيرانك في الدار ، ورفقاءك في المنازل ، وشركاءك في الكرامة ، وقضيت يوم خلقت السماوات والأرض ، أنه من اتخذك وأمك إلهين من دون الله أن أجعلهم في الدرك الأسفل من النار ، وقضيت يوم خلقت السماوات والأرض ، أني مثبت هذا الأمر على يدي عبدي محمد وأختم به الأنبياء والرسل ، ومولده بمكة ، ومهاجره بطيبة ، وملكه بالشام ، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ، ولا متزين بالفحش ، ولا قوال بالخنا ، أسدده لكل أمر جميل ، وأهب له كل خلق كريم ، أجعل التقوى ضميره ، والحكمة معقوله ، والوفاء طبيعته ، والعدل سيرته ، والحق شريعته ، والإسلام ملته ، واسمه أحمد ، أهدي به بعد الضلالة ، وأعلم به بعد الجهالة ، وأغني به بعد العائلة ، وأرفع به بعد الضعة ، أهدي به ، وأفتح به بين آذان صم ، وقلوب غلف ، وأهواء مختلفة متفرقة ، أجعل أمته خير أمة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ; إخلاصا لاسمي وتصديقا لما جاءت به الرسل ، ألهمهم التسبيح والتهليل والتقديس في مساجدهم ومجالسهم وبيوتهم ومنقلبهم ومثواهم ، يصلون لي قياما وقعودا وركعا وسجدا ، ويقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا ، قربانهم دماؤهم ، وأناجيلهم في صدورهم ، وقربانهم في بطونهم ، رهبان بالليل ، ليوث بالنهار ، ذلك فضلي أوتيه من أشاء ، وأنا ذو الفضل العظيم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية