الواو في قوله تعالى وإذا بشر أحدهم بالأنثى يجوز أن تكون واو الحال ، ويجوز أن تكون الجملة معترضة ، والواو اعتراضية اقتضى الإطالة بها أنها من تفاريع شركهم ، وهذا أولى من أن تجعل معطوفة على جملة ولهم ما يشتهون التي هي في موضع الحال ; لأن ذلك يفيت قصدها بالعد ، وهذا القصد من مقتضيات المقام ، وإن كان مآل الاعتبارين واحدا في حاصل المعنى .
[ ص: 184 ] والتعبير عن الإعلام بازدياد الأنثى بفعل ( بشر ) في موضعين ; لأنه كذلك في نفس الأمر إذ ازدياد المولود نعمة على الوالد لما يترقبه من التأنس به ، ومزاحه ، والانتفاع بخدمته ، وإعانته عند الاحتياج إليه ، ولما فيه من تكثير نسل القبيلة الموجب عزتها ، وآصرة الصهر ، ثم إن هذا مع كونه بشارة في نفس الأمر فالتعبير به يفيد تعريضا بالتهكم بهم إذ يعدون البشارة مصيبة ، وذلك من تحريفهم الحقائق ، والتعريض من أقسام الكناية ، والكناية تجامع الحقيقة .
والباء في بالأنثى لتعدية فعل البشارة ، وعلقت بذات الأنثى ، والمراد : بولادتها ، فهو على حذف مضاف معلوم .
وفعل ( ظل ) من أفعال الكون أخوات ( كان ) التي تدل على اتصاف فاعلها بحالة لازمة ، فلذلك تقتضي فاعلا مرفوعا يدعى اسما وحالا لازما له منصوبا يدعى خبرا ; لأنه شبيه بخبر المبتدأ ، وسماها النحاة لذلك نواسخ ; لأنها تعمل فيما لولاها لكان مبتدأ وخبرا فلما تغير معها حكم الخبر سميت ناسخة لرفعه ، كما سميت ( إن ) وأخواتها و ( ظن ) وأخواتها كذلك ، وهو اصطلاح تقريبي ، وليس برشيق .
ويستعمل ظل بمعنى صار ، وهو المراد هنا .
واسوداد الوجه : مستعمل في لون وجه الكئيب إذ ترهقه غبرة ، فشبهت بالسواد مبالغة .
والكظيم : الغضبان المملوء حنقا ، وتقدم في قوله تعالى ( فهو كظيم ) في سورة يوسف ، أي أصبح حنقا على امرأته ، وهذا من جاهليتهم الجهلاء وظلمهم ، إذ يعاملون المرأة معاملة من لو كانت ولادة الذكور باختيارها ، ولماذا لا يحنق على نفسه إذ يلقح امرأته بأنثى ، قالت إحدى نسائهم ، أنشده تذكر بعلها ، وقد هجرها ; لأنها تلد البنات : الأصمعي
[ ص: 185 ]
يغضب إن لم نلد البنينـا وإنما نعطي الذي أعطينا
والتواري : الاختفاء ، مضارع واراه ، مشتق من الوراء ، وهو جهة الخلف ، و ( من ) في قوله تعالى من سوء ما بشر به للابتداء المجازي المفيد معنى التعليل ; لأنه يقال : فعلت كذا من أجل كذا ، قال تعالى ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ، أي يتوارى من أجل تلك البشارة .وجملة ( أيمسكه ) بدل اشتمال من جملة يتوارى ; لأنه يتوارى حياء من الناس ، فيبقى متواريا من قومه حتى تنسى قضيته ، هو معنى قوله تعالى ( أيمسكه ) إلخ ، أي يتوارى يتردد بين أحد هذين الأمرين بحيث يقول في نفسه : أأمسكه على هون أم أدسه في التراب ؟ والمراد : التردد في جواب هذا الاستفهام .
والهون : الذل ، وتقدم عند قوله تعالى فاليوم تجزون عذاب الهون في سورة الأنعام .
والدس : إخفاء الشيء بين أجزاء شيء آخر كالدفن ، والمراد : الدفن في الأرض وهو الوأد ، وكانوا يئدون بناتهم ، بعضهم يئد بحدثان الولادة ، وبعضهم يئد إذا يفعت الأنثى ، ومشت ، وتكلمت ، أي حين تظهر للناس لا يمكن إخفاؤها ، وذلك من أفظع أعمال الجاهلية ، وكانوا متمالئين عليه ، ويحسبونه حقا للأب فلا ينكرها الجماعة على الفاعل .
ولذلك سماه الله حكما بقوله تعالى ألا ساء ما يحكمون ، وأعلن ذمه بحرف ( ألا ) ; لأنه جور عظيم قد تمالأوا عليه ، وخولوه للناس ظلما للمخلوقات ، فأسند إلى ضمير الجماعة مع أن الكلام كان جاريا على فعل واحد غير معين ; قضاء لحق هذه النكتة .