في قلوبهم مرض : المرض عبارة عما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال اللائق به؛ ويوجب الخلل في أفاعيله؛ ويؤدي إلى الموت؛ استعير ههنا لما في قلوبهم من الجهل؛ وسوء العقيدة؛ وعداوة النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 42 ] وغير ذلك من فنون الكفر المؤدي إلى الهلاك الروحاني ؛ والتنكير للدلالة على كونه نوعا مبهما غير ما يتعارفه الناس من الأمراض؛ والجملة مقررة لما يفيده قوله (تعالى): وما هم بمؤمنين ؛ من استمرار عدم إيمانهم؛ أو تعليل له؛ كأنه قيل: ما لهم لا يؤمنون؟ فقيل: في قلوبهم مرض يمنعه.
فزادهم الله مرضا ؛ بأن طبع على قلوبهم؛ لعلمه (تعالى) بأنه لا يؤثر فيها التذكير والإنذار؛ والجملة معطوفة على ما قبلها؛ والفاء للدلالة على ترتيب مضمونها عليه؛ وبه اتضح كونهم من الكفرة المختوم على قلوبهم؛ مع زيادة بيان السبب؛ وقيل: زادهم كفرا بزيادة التكاليف الشرعية؛ لأنهم كانوا كلما ازداد التكاليف بنزول الوحي يزدادون كفرا؛ ويجوز أن يكون المرض مستعارا لما تداخل قلوبهم من الضعف والجبن والخور عند مشاهدتهم لعزة المسلمين؛ فزيادته (تعالى) إياهم مرضا ما فعل بهم من إلقاء الروع وقذف الرعب في قلوبهم عند إعزاز الدين بإمداد النبي - صلى الله عليه وسلم - بإنزال الملائكة؛ وتأييده بفنون النصر والتمكين؛ فقوله (تعالى): في قلوبهم مرض ؛ إلخ.. حينئذ استئناف تعليلي لقوله (تعالى): يخادعون الله ؛ إلخ.. كأنه قيل: ما لهم يخادعون ويداهنون؟ ولم لا يجاهرون بما في قلوبهم من الكفر؟ فقيل: في قلوبهم ضعف مضاعف؛ هذه حالهم في الدنيا؛ ولهم ؛ في الآخرة؛ عذاب أليم ؛ أي مؤلم؛ يقال: "ألم"؛ و"هو أليم"؛ كـ "وجع"؛ و"هو وجيع"؛ وصف به العذاب للمبالغة؛ كما في قوله:
... تحية بينهم ضرب وجيع
على طريقة "جد جده"؛ فإن الألم والوجع حقيقة للمؤلم والمضروب؛ كما أن الجد للجاد؛ وقيل: هو بمعنى "المؤلم"؛ كـ "السميع"؛ بمعنى "المسمع"؛ وليس ذلك بثبت؛ كما سيجيء في قوله (تعالى): بديع السماوات والأرض .
بما كانوا يكذبون : الباء للسببية؛ أو للمقابلة؛ و"ما" مصدرية؛ داخلة في الحقيقة على "يكذبون"؛ وكلمة "كانوا" مقحمة لإفادة دوام كذبهم وتجدده؛ أي بسبب كذبهم؛ أو بمقابلة كذبهم المتجدد المستمر؛ الذي هو قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر ؛ وهم غير مؤمنين؛ فإنه إخبار بإحداثهم الإيمان فيما مضى؛ لا إنشاء للإيمان؛ ولو سلم فهو متضمن للإخبار؛ بصدوره عنهم؛ وليس كذلك؛ لعدم التصديق القلبي بمعنى الإذعان والقبول قطعا؛ ويجوز أن يكون محمولا على الظاهر؛ بناء على رأي من يجوز أن يكون لـ "كان" الناقصة مصدر؛ كما صرح به في قول الشاعر:
ببذل وحلم ساد في قومه الفتى ... وكونك إياه عليك يسير
أي: لهم عذاب أليم بسبب كونهم يكذبون على الاستمرار؛ وترتيب العذاب عليه من بين سائر موجباته القوية؛ إما لأن المراد بيان العذاب الخاص بالمنافقين ؛ بناء على ظهور شركتهم للمجاهرين فيما ذكر من العذاب العظيم؛ حسب اشتراكهم فيما يوجبه من الإصرار على الكفر؛ كما ينبئ عنه قوله (تعالى): ومن الناس ؛ إلخ.. وإما للإيذان بأن لهم بمقابلة سائر جناياتهم العظيمة من العذاب ما لا يوصف؛ وإما للرمز إلى كمال سماجة الكذب؛ نظرا إلى ظاهر العبارة المخيلة لانفراده بالسببية؛ مع إحاطة علم السامع بأن لحوق العذاب بهم من جهات شتى؛ وأن الاقتصار عليه للإشعار بنهاية قبحه؛ والتنفير عنه؛ عن الصديق - رضي الله عنه - ويروى مرفوعا أيضا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: إياكم والكذب؛ فإنه مجانب للإيمان؛ وما روي أن إبراهيم - عليه السلام - كذب ثلاث كذبات؛ فالمراد به التعريض؛ وإنما سمي به لشبهه به صورة؛ وقيل: "ما" موصولة؛ والعائد محذوف؛ أي: بالذي يكذبونه؛ وقرئ: "يكذبون"؛ والمفعول محذوف؛ وهو إما النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أو القرآن؛ و"ما" مصدرية؛ أي: بسبب تكذيبهم إياه - عليه الصلاة والسلام -؛ أو القرآن؛ أو موصولة؛ أي: بالذي يكذبونه؛ على أن العائد محذوف؛ ويجوز أن يكون صيغة التفعيل للمبالغة؛ كما في "بين"؛ في "بان"؛ و"قلص"؛ [ ص: 43 ] في "قلص"؛ أو للتكثير؛ كما في "موتت البهائم"؛ و"بركت الإبل"؛ وأن يكون من قولهم: كذب الوحشي؛ إذا جرى شوطا ثم وقف لينظر ما وراءه؛ فإن المنافق متوقف في أمره؛ متردد في رأيه؛ ولذلك قيل له: مذبذب.