قال الماوردي : أما الصفا والمروة فركن واجب في الحج والعمرة فإن السعي سبعا بين كان على إحرامه وإن عاد إلى بلده حتى يعود فيأتي به ، وهو في الصحابة قول ترك منه سعيا واحدا أو ذراعا من سعي واحد عائشة ، وابن عمر ، وجابر ، وفي الفقهاء قول مالك وأحمد ، وقال ابن مسعود ، وأبي بن كعب وابن عباس : السعي ليس بواجب ، وقال أبو حنيفة : هو واجب لكن ينوب عنه الدم ، وتحقق مذهبه أنه غير واجب واستدلوا بقوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ البقرة : 158 ] ، فأخبر برفع الحرج والجناح عمن يطوف بهما ، وذلك مستعمل فيما كان مباحا ، ولم يكن واجبا ، كما قال تعالى : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة [ النساء : 101 ] ، فكان القصر مباحا ، ولم يكن واجبا ، ولأن ابن مسعود ، وأبيا ، وابن عباس يقرءون " فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما " وهذه قراءة ثلاثة من الصحابة ، فوجب رفع الجناح [ ص: 156 ] عن تارك السعي وذلك أوكد من خبر الواحد ، فكان العمل بها واجبا قالوا : ولأن السعي تبع للطواف ، لأنه لا يجوز إلا بعده ، وما كان تبعا لركن من أركان الحج لم يكن ركنا في الحج ، كالمبيت بمزدلفة لما كان تبعا للوقوف بعرفة لم يكن ركنا في الحج وكالمبيت بعرفة .
قالوا : ولأنه ركن يتكرر ليس من شرطه المسجد ، فوجب أن لا يكون ركنا كرمي الجمار .
والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه رواية عطاء بن أبي رباح عن عن جدتها صفية بنت شيبة حبيبة قالت : قريش دار آل أبي حسين ننظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة ورأيته يسعى وإن مئزره لتدور من شدة السعي حتى إني لأرى ركبتيه ، وسمعته يقول : اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي . دخلت مع نسوة من
فدل هذا الحديث على وجوب السعي ، وروى هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت لعمر " والله ما أتم الله حج من لم يسع بين الصفا والمروة لأن " الله تعالى يقول : إن الصفا والمروة من شعائر الله ، [ البقرة : 158 ] ، وعائشة لا تقسم على ذلك وتقطع به إلا أن معنى الآية غير محتمل والتأويل فيها غير سائغ ، ولأن شعائر الله تعالى واجبة قال الله تعالى : لا تحلوا شعائر الله [ المائدة : 2 ] ، ولأنه مشي نسك ، يتنوع نوعين فوجب أن يكون ركنا كالطواف .
ومعنى قولنا : يتنوع هو أن يكون في بعضه ماشيا ، وفي بعضه ساعيا ، ولأنه نسك في الحج والعمرة ، فوجب أن يكون ركنا من شرائطها كالإحرام ، ولا يدخل عليه الحلق : لأنه ليس بنسك على أحد القولين .
فأما الجواب عن الآية فمن ثلاثة أوجه :
أحدها : أن ظاهر الآية متروك : لأنه يقتضي رفع الجناح عن ترك السعي وبالإجماع أنه إذا لم يسع كان حرجا آثما ، فلم يصح الاحتجاج بظاهرها .
والثاني : أن ما يقتضيه ظاهر الآية من السعي مباح وليس بواجب ، وهو السعي بالصفا والمروة والواجب إنما هو السعي بين الصفا والمروة ، وذاك أن قريشا في الجاهلية كان لها على الصفا صنم اسمه إساف ، وعلى المروة صنم اسمه نائلة ؛ ولذلك ذكر اسم الصفا بإساف ؛ لأن اسمه مذكر ، وأنثت المروة ؛ لأن اسمها مؤنث ، فكانوا يطوفون حول الصفا والمروة تقربا إلى الصنمين ، فكره المسلمون الطواف بهما ، فأباح الله تعالى ذلك ، لزوال سببه ، وإنه وإن شابه أفعال الجاهلية ، فإنه مخالف لها ؛ لأن هذا لله وذلك لغير الله .
والجواب الثالث : وهو جواب الزبيري هو أن قوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ البقرة : 158 ] ، وهذا [ ص: 157 ] كلام تام ، أي فلا جناح عليه في تقديم الحج على العمرة ، أو العمرة على الحج : لأنهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج ، ثم قال : عليه أن يطوف بهما ، وهذا كلام مستأنف ، أي من حج أو اعتمر فعليه أن يطوف بين الصفا والمروة ، وأما قراءة الثلاثة " فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما " فالجواب عنه : أن لا صلة في الكلام إذا تقدمها حجة كما قال تعالى : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [ الأعراف : 12 ] ، معناه ما يمنعك أن تسجد إذ أمرتك ، وكما قال الشاعر :
ما كان يرضى رسول الله فعلهم والطيبان أبو بكر ولا عمر
وأما قولهم : إنه لما لم يجز إلا بعد الطواف ، كان تبعا للطواف فلم يجز أن يكون ركنا كالطواف .قلنا : هذه عبرة فاسدة وحجة باطلة : لأن الطواف لا يجوز إلا بعد الوقوف ، وهو ركن كالوقوف .
وأما قياسهم على الرمي ، فالمعنى في الرمي أنه تابع للوقوف ، بدليل سقوطه عمن فاته الوقوف والسعي ليس بتابع للوقوف ، بدليل وجوبه على من فاته الوقوف ، فلما كان الرمي تابعا ، لم يكن ركنا ، ولما لم يكن السعي تابعا ، كان ركنا .