مسألة
لا تجوز سواء أحسن العربية أم لا ، في الصلاة أو خارجها ، لقوله تعالى : قراءته بالعجمية إنا أنزلناه قرآنا عربيا ( يوسف : 2 ) ، وقوله : ولو جعلناه قرآنا أعجميا ( فصلت : 44 ) .
وقيل عن أبي حنيفة : تجوز قراءته بالفارسية مطلقا ، وعن أبي يوسف : إن لم يحسن العربية ; لكن صح عن أبي حنيفة الرجوع عن ذلك ، حكاه عبد العزيز في شرح البزدوي .
واستقر الإجماع على أنه تجب قراءته على هيئته التي يتعلق بها الإعجاز لنقص الترجمة عنه ، ولنقص غيره من الألسن عن البيان الذي اختص به دون سائر الألسنة ، وإذا لم تجز قراءته بالتفسير العربي لمكان التحدي بنظمه فأحرى أن لا تجوز الترجمة بلسان غيره ، ومن هاهنا قال القفال من أصحابنا : عندي أنه لا يقدر أحد أن يأتي بالقرآن بالفارسية ، قيل له : فإذن لا يقدر أحد أن يفسر القرآن ، قال : ليس كذلك ; لأن هناك يجوز أن يأتي ببعض مراد الله ويعجز عن البعض ; أما إذا أراد أن يقرأه بالفارسية ، فلا يمكن أن يأتي بجميع مراد [ ص: 97 ] الله ، أي فإن الترجمة إبدال لفظة بلفظة تقوم مقامها ، وذلك غير ممكن بخلاف التفسير .
وما أحاله القفال من ترجمة القرآن ذكره في فقه العربية أيضا فقال : لا يقدر أحد من التراجم على أن ينقل القرآن إلى شيء من الألسن ; كما نقل الإنجيل عن السريانية إلى الحبشية والرومية ، وترجمت التوراة والزبور وسائر كتب الله تعالى بالعربية ; لأن العجم لم تتسع في الكلام اتساع العرب ; ألا ترى أنك لو أردت أن تنقل قوله تعالى : أبو الحسين بن فارس وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ( الأنفال : 58 ) لم تستطع أن تأتي بهذه الألفاظ مؤدية عن المعنى الذي أودعته حتى تبسط مجموعها ، وتصل مقطوعها ، وتظهر مستورها ، فتقول إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد ، فخفت منهم خيانة ونقضا فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطته لهم ، وآذنهم بالحرب ; لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على استواء ، وكذلك قوله تعالى : فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ( الكهف : 11 ) انتهى .
فظهر من هذا أن الخلاف في جواز قراءته بالفارسية لا يتحقق لعدم إمكان تصوره ، ورأيت في كلام بعض الأئمة المتأخرين أن المنع من الترجمة مخصوص بالتلاوة ; فأما ترجمته للعمل به فإن ذلك جائز للضرورة ، وينبغي أن يقتصر من ذلك على بيان المحكم منه ، والغريب المعنى بمقدار الضرورة إليها من التوحيد وأركان العبادات ; ولا يتعرض لما سوى ذلك ، ويؤمر من أراد الزيادة على ذلك بتعلم اللسان العربي ; وهذا هو الذي يقتضيه الدليل ، ولذلك لم يكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر إلا بآية واحدة محكمة لمعنى واحد ; وهو توحيد الله والتبري من الإشراك ; لأن النقل من لسان إلى لسان قد تنقص الترجمة عنه كما سبق ، فإذا كان معنى المترجم عنده واحدا قل وقوع التقصير فيه ; بخلاف المعاني إذا كثرت ; وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لضرورة التبليغ ، أو لأن معنى تلك الآية كان عندهم مقررا في كتبهم ، وإن خالفوه .
[ ص: 98 ] وقال الكواشي في تفسير سورة الدخان : " أجاز أبو حنيفة القراءة بالفارسية بشريطة ; وهى أن يؤدي القارئ المعاني كلها من غير أن ينقص منها شيئا أصلا . قالوا : وهذه الشريطة تشهد أنها إجازة كلا إجازة ; لأن كلام العرب - خصوصا القرآن الذي هو معجز - فيه من لطائف المعاني والإعراب ما لا يستقل به لسان من فارسية وغيرها " .
وقال ما كان الزمخشري أبو حنيفة يحسن الفارسية ; فلم يكن ذلك منه عن تحقيق وتبصر ، وروى عن علي بن الجعد أبي يوسف عن أبي حنيفة مثل صاحبيه في القراءة بالفارسية .