وجوز وغيره أن يكون ظرفا لفعل يدل عليه ( لا يظلمون ) ولم يجعل ظرفا له بناء على أن الفاء لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ولو ظرفا، وجوز أيضا أن يكون مبتدأ وهو مبني لإضافته إلى غير متمكن والخبر جملة: ابن عطية فمن أوتي إلخ ويقدر للربط فيها فيه، وفيه أن المنقسم إلى متمكن وغير متمكن هو الاسم لا الفعل وما في حيزه هنا فعل مضارع على أن بناء أسماء الظروف المضافة إلى جملة هو أحد ركنيها بناء على مذهب الكوفيين والبصريين لا يجوزون ذلك ومع هذا هو تخريج متكلف.
وجوز أيضا كونه ظرفا لفضلناهم قال: وتفضيل البشر على سائر الحيوانات يوم القيامة «بين» وبه قال بعض النحاة إلا أنه قال: فضلناهم بالثواب، وفيه أنه: أي تفضيل للبشر ذلك اليوم؛ والكفار منهم أخس من كل شيء إلا أن يقال: يكفي في تفضيل الجنس تفضيل بعض أفراده؛ ألا ترى صحة الرجال أفضل من النساء مع أن من النساء من هي أفضل من بعض الرجال بمراتب، وأيضا إذا أريد التفضيل بالثواب لا يصح إخراج الملائكة لأن جنس البشر يثابون والملائكة عليهم السلام لا يثابون كما هو مقرر في محله، ثم إنهم يشاركهم في الثواب الجن لأن مؤمنيهم يثابون كما يثاب البشر عند بعض، وقيل: إن ثوابهم دون ثوابهم لأنهم لا يرون الله تعالى في الجنة عند من قال: إن الله تعالى يرى فيها فالبشر مفضلون عليهم في الثواب من هذه الجهة، وقيل: ظرف يقرءون أو ما دل عليه، وفيه أنهم لا يقرؤون كتابهم وقت الدعوة. وأجيب بأن المراد بيوم يدعون وقت طويل وهو اليوم الآخر الذي يكون فيه ما يكون ويبقى في جعله ظرفا للمذكور حديث الفاء.
وقال هو ظرف لنعيدكم محذوفا، وقيل: ظرف ليستجيبون، وقيل: هو بدل من الفراء: يوم يدعوكم وقيل: العامل فيه ما دل عليه قوله سبحانه: متى هو وهي أقوال في غاية الضعف، وأقرب الأقوال وأقواها ما ذكرناه أولا.
والإمام المقتدى به والمتبع عاقلا كان أو غيره، والجار والمجرور متعلق بندعو؛ أي: ندعو كل أناس من بني آدم الذين فعلنا بهم في الدنيا ما فعلنا من التكريم وما عطف عليه بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين فيقال: يا أتباع فلان، يا أهل دين كذا أو كتاب كذا.
وأخرج عن ابن مردويه كرم الله تعالى وجهه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية: علي «يدعى كل قوم [ ص: 121 ] بإمام زمانهم كتاب ربهم وسنة نبيهم»
وأخرج ابن أبي شيبة وغيرهما عن وابن المنذر أنه قال: إمام هدى وإمام ضلالة. ابن عباس
وأخرج من طريق ابن جرير العوفي عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: بإمامهم بكتاب أعمالهم فيقال: يا أصحاب كتاب الخير، يا أصحاب كتاب الشر، وروي ذلك عن أبي العالية والربيع والحسن.
وقرئ: «بكتابهم» ولعل وجه كون ذلك إمامهم أنهم متبعون لما يحكم به من جنة أو نار، وقال الضحاك هو كتابهم الذي نزل عليهم. وابن زيد:
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه في تاريخه عن والخطيب أنه قال: هو نبيهم الذي بعث إليهم. أنس
واختار كغيره عموم الإمام لما ذكر في الآثار، وقيل: المراد القوى الحاملة لهم على عقائدهم وأفعالهم كالقوة النظرية والعملية والقوة الغضبية والشهوية سواء كانت الشهوة شهوة النقود أو الضياع أو الجاه والرياسة ولاتباعهم لها دعيت إماما، وهو مع كونه غير مأثور بعيد جدا فلا يقتدى بقائله وإن كان إماما. ابن عطية
وفي الكشاف أن من بدع التفاسير أن الإمام جمع أم كخف وخفاف وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم، وأن الحكمة في الدعاء بهن دون الآباء رعاية حق عيسى عليه السلام وشرف الحسن ولا يفضح أولاد الزنا، وليت شعري أيهما أبدع؟ أصحة تفسيره أم بهاء حكمته انتهى. وهو مروي عن والحسين محمد بن كعب.
ووجه عدم قبوله على ما في الكشف، أما أولا فلأن «إمام» جمع أم غير شائع وإنما المعروف الأمهات.
وأما ثانيا فلأن رعاية حق عيسى عليه السلام في امتيازه بالدعاء بالأم فإن خلقه من غير أب كرامة له لا غض منه ليجبر بأن الناس أسوته في انتسابهم إلى الأمهات، وإظهار شرف الحسنين بدون ذلك أتم؛ فإن أباهما خير من أمهما مع أن أهل البيت كحلقة مفرغة، وأما افتضاح أولاد الزنا فلا فضيحة إلا للأمهات وهي حاصلة دعي غيرهم بالأمهات أو بالآباء ولا ذنب لهم في ذلك حتى يترتب عليه الافتضاح انتهى، وما ذكر من عدم شيوع الجمع المذكور بين، وأما الطعن في الحكمة فقد تعقب فإن حاصلها إنه لو دعي جميع الناس بآبائهم ودعي عيسى عليه السلام بأمه لربما أشعر بنقص فروعي تعظيمه عليه السلام ودعي الجميع بالأمهات وكذا روعي تعظيم الحسنين رضي الله تعالى عنهما لما أن في ذلك بيان نسبهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو نسبا إلى أبيهما كرم الله تعالى وجهه لم يفهم هذا، وإن كان هو هو رضي الله تعالى عنه، وفي ذلك أيضا ستر على الخلق حتى لا يفتضح أولاد الزنا فإنه لو دعي الناس بآبائهم ودعوا هم بأمهاتهم علم أنهم لا نسبة لهم إلى آباء يدعون بهم وفيه تشهير لهم ولو دعوا بآباء لم يعرفوا بهم في الدنيا وإن لم ينسبوا إليهم شرعا كان كذلك، وعلى هذا يسقط ما في الكشف، وعندي أن القائل بذلك لا يكاد يقول به من غير أن يتمسك بخبر لأنه خلاف ما ينساق إلى الأذهان على اختلاف مراتبها ولا تكاد تسلم حكمته عن وهن ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر.
ولعل الخبر إن كان ليس بالصحيح ويعارضه ما قدمناه غير بعيد من قوله صلى الله عليه وسلم: «إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم».
والله تعالى أعلم، وما ذكر من تعلق الجار بما عنده هو الظاهر الذي ذهب إليه الجمهور، وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا أي مصحوبين بإمامهم، ثم إن الداعي إما الله عز وجل وإما الملك، وهو الذي تشعر به الآثار، فإسناد الفعل إليه تعالى مجاز. وقرأ «يدعو» بالياء آخر الحروف؛ أي: يدعو الله تعالى أو الملك، مجاهد: في رواية: «يدعى» بالبناء [ ص: 122 ] للمفعول ورفع ( كل ) على النيابة عن الفاعل، وفي رواية أخرى: «يدعوا» بضم الياء وفتح العين بعدها واو ورفع ( كل ) وخرجت على وجهين؛ فإن الظاهر يدعون بإثبات النون التي هي علامة الرفع الأول إن الواو ليست ضمير جمع ولا علامته وإنما هي حرف من نفس الكلمة، وكانت ألفا والأصل يدعى كما في القراءة الأخرى وقلبت الألف واوا على لغة من يقول في أفعى وهي الحية أفعو، وهذه اللغة مخصوصة بالوقف على المشهور فيكون قد أجري هنا الوصل مجرى الوقف، ونقل عن والحسن أن قلب الألف في الآخر واوا لغة مطلقا، والثاني أن الواو ضمير أو علامة كما في يتعاقبون فيكم ملائكة، والنون محذوفة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: سيبويه «لا تؤمنوا حتى تحابوا وكما تكونوا يولى عليكم». في قول، وكذا في قول الشاعر:
أبيت أسري وتبيتي تدلكي وجهك بالعنبر والمسك الذكي
وكأنها لكونها علامة إعراب عوملت معاملة حركته في إظهارها تارة وتقديرها أخرى، ولا فرق في كونها علامة إعراب بين أن تكون الواو ضميرا وأن تكون علامة جمع على الصحيح، والظاهر أن حذفها في مثل ما ذكر شاذ لا ضرورة؛ وإلا فلا يصح هذا التخريج في الآية، وفي توجيه رفع ( كل ) على هذه القراءة الأقوال في توجيه الرفع في أمثاله وهي مشهورة في كتب النحو فمن أوتي يومئذ من أولئك المدعوين كتابه صحيفة أعمالهم والله سبحانه أعلم بحقيقتها بيمينه إبانة لخطر الكتاب المؤتى وتشريفا لصاحبه وتبشيرا له من أول الأمر بما في مطاويه فأولئك إشارة إلى من باعتبار معناه وكأنه أشير بذلك إلى أنهم حزب مجتمعون على شأن جليل، وقيل: فيه إشعار بأن قراءتهم لكتبهم على وجه الاجتماع لا على وجه الانفراد كما في حال الإيتاء، وأكثر الأخبار ظاهرة في أن حال القراءة كحال الإيتاء، نعم جاء من حديث رضي الله تعالى عنها: أنه يؤتى العبد كتابه بيمينه فيقرأ سيئاته ويقرأ الناس حسناته ثم يحول الصحيفة فيحول الله تعالى حسناته فيقرؤها الناس فيقولون: ما كان لهذا العبد من سيئة. عائشة
ويحتمل أن يكون كل من يؤتى كتابه بيمينه بعد أن يقرأه منفردا يأتي أصحابه ويقول: هاؤم اقرءوا كتابيه فيجتمعون عليه ويقرؤونه ويقرؤه هو أيضا معهم تلذذا به لكن لم نجد في ذلك أثرا، ومع هذا لا يجدي نفعا فيما أراد القائل، وفي إلحاق اسم الإشارة علامة البعد إشارة إلى رفعة درجات المشار إليهم؛ أي: أولئك المختصون بتلك الكرامة التي يشعر بها إيتاء الكتاب باليمين يقرءون ولو لم يكونوا قارئين في الدنيا كتابهم الذي أوتوه باليمين ليذكروا أعمالهم ويقفوا على تفاصيلها فيحاسبوا عليها. وقيل يقرؤونه تبجحا بما سطر فيه من الحسنات المستتبعة لفنون الكرامات.
والإظهار في مقام الإضمار لمزيد الاعتناء ولا يظلمون أي: لا ينقصون من أجور أعمالهم المرتسمة في كتبهم بل يؤتونها مضاعفة فتيلا أي: قدر فتيل وهو القشر الذي في شق النواة سمي بذلك لأنه على هيئة الشيء المفتول، وقيل: هو ما تفتله بين أصابعك من خيط أو وسخ ويضرب به المثل في الشيء الحقير، ثم إن الذي يسرع إلى الذهن أن فاعل الإيتاء الملائكة عليهم السلام يعطون السعيد بعد أن يدعى كتابه بيمينه فيقرؤه فيحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا.
لكن أخرج العقيلي عن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنس «الكتب كلها تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة [ ص: 123 ] يبعث الله تعالى ريحا فتطيرها إلى الأيمان والشمائل وأول خط فيها اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا وهو ظاهر في أن فاعل الإيتاء ليس الملك إلا أن الخبر يحتاج إلى تنقير؛ فإني لست من صحته على يقين.
نعم جاء في حديث أخرجه الإمام أحمد الصديقة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: «قلت: يا رسول الله، هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة؟ قال: أما عند ثلاث فلا -إلى أن قال: وعند تطاير الكتب». عائشة عن
وهو مؤيد بظاهره الخبر السابق. والله تعالى أعلم.
وجاء في بعض الآثار أن أول من يؤتى كتابه بيمينه من هذه الأمة أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد، وأول من يؤتى كتابه بشماله أخوه الأسود سود الله تعالى وجهه بعد أن يمد يمينه ليأخذه بها فيخلعها ملك، وسبب ذلك مذكور في السير.