قال أبو جعفر : يقول ، تعالى ذكره : إنما مثل ما تباهون في الدنيا وتفاخرون به من زينتها وأموالها ، مع ما قد وكل بذلك من التكدير والتنغيص وزواله بالفناء والموت ، كمثل ماء أنزلناه من السماء ، يقول : كمطر أرسلناه من السماء إلى الأرض ( فاختلط به نبات الأرض ) ، يقول : فنبت بذلك المطر أنواع من النبات ، مختلط بعضها ببعض ، كما :
17598 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن عن ابن جريج عن عطاء الخراساني ابن عباس قوله : ( إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ) ، قال : اختلط فنبت بالماء كل لون مما يأكل الناس ، كالحنطة والشعير وسائر حبوب الأرض والبقول والثمار ، وما يأكله الأنعام والبهائم من الحشيش والمراعي .
وقوله : ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ) يعني : ظهر حسنها وبهاؤها ( وازينت ) ، يقول : وتزينت ( وظن أهلها ) ، يعني : أهل الأرض [ ص: 56 ] ( أنهم قادرون عليها ) ، يعني : على ما أنبتت .
وخرج الخبر عن " الأرض " والمعنى للنبات ، إذا كان مفهوما بالخطاب ما عني به .
وقوله : ( أتاها أمرنا ليلا أو نهارا ) ، يقول : جاء الأرض " أمرنا " يعني : قضاؤنا بهلاك ما عليها من النبات إما ليلا وإما نهارا ( فجعلناها ) ، يقول : فجعلنا ما عليها ( حصيدا ) يعني : مقطوعة مقلوعة من أصولها .
وإنما هي " محصودة " صرفت إلى " حصيد " .
( كأن لم تغن بالأمس ) ، يقول : كأن لم تكن تلك الزروع والنبات على ظهر الأرض نابتة قائمة على الأرض قبل ذلك بالأمس .
وأصله : من " غني فلان بمكان كذا ، يغنى به " ، إذا أقام به ، كما قال النابغة الذبياني :
غنيت بذلك إذ هم لك جيرة منها بعطف رسالة وتودد
يقول : فكذلك يأتي الفناء على ما تتباهون به من دنياكم وزخارفها ، فيفنيها ويهلكها كما أهلك أمرنا وقضاؤنا نبات هذه الأرض بعد حسنها وبهجتها ، حتى صارت كأن لم تغن بالأمس ، كأن لم تكن قبل ذلك نباتا على ظهرها .
يقول الله جل ثناؤها : ( كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ) ، يقول : كما [ ص: 57 ] بينا لكم أيها الناس مثل الدنيا ، وعرفناكم حكمها وأمرها ، كذلك نبين حججنا وأدلتنا لمن تفكر واعتبر ونظر .
وخص به أهل الفكر ، لأنهم أهل التمييز بين الأمور ، والفحص عن حقائق ما يعرض من الشبه في الصدور .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
17599 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ) ، الآية ، أي : والله ، لئن تشبث بالدنيا وحدب عليها ، لتوشك الدنيا أن تلفظه وتقضي منه .
17600 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر عن قتادة : ( وازينت ) ، قال : أنبتت وحسنت .
17601 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا ابن عيينة عن عن عمرو بن دينار عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال : سمعت مروان يقرأ على المنبر هذه الآية : ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها ) ، قال : قد قرأتها ، وليست في المصحف . فقال عباس بن عبد الله بن العباس : هكذا يقرؤها ابن عباس . فأرسلوا إلى ابن عباس فقال : هكذا أقرأني أبي بن كعب . [ ص: 58 ]
17602 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( كأن لم تغن بالأمس ) ، يقول : كأن لم تعش ، كأن لم تنعم .
17603 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو أسامة عن إسماعيل قال سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول : في قراءة أبي : ( كأن لم تغن بالأمس وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون )
واختلفت القرأة في قراءة قوله : ( وازينت ) .
فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والعراق : ( وازينت ) بمعنى : وتزينت ، ولكنهم أدغموا التاء في الزاي لتقارب مخرجيهما ، وأدخلوا ألفا ليوصل إلى قراءته ، إذ كانت التاء قد سكنت ، والساكن لا يبتدأ به .
وحكي عن أبي العالية وأبي رجاء وجماعة أخر غيرهم ، أنهم قرءوا ذلك : ( وأزينت ) على مثال " أفعلت " . [ ص: 59 ] والأعرج
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك : ( وازينت ) لإجماع الحجة من القراء عليها .