أما قوله :( أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ) فقال أهل العلم : إنه لا يجوز أن يظن موسى - عليه السلام - ، فيجب تأويل الآية ، وفيه بحثان : أن الله تعالى يهلك قوما بذنوب غيرهم
الأول : أنه استفهام بمعنى الجحد ، وأراد أنك لا تفعل ذلك . كما تقول : أتهين من يخدمك ؟ أي لا تفعل ذلك .
الثاني : قال : هو استفهام استعطاف ، أي لا تهلكنا . المبرد
وأما قوله :( إن هي إلا فتنتك ) فقال الواحدي رحمه الله : الكناية في قوله :( هي ) عائدة إلى الفتنة كما تقول : إن هو إلا زيد ، وإن هي إلا هند . والمعنى : أن تلك الفتنة التي وقع فيها السفهاء لم تكن إلا فتنتك أضللت بها قوما فافتتنوا ، وعصمت قوما عنها فثبتوا على الحق ، ثم أكد بيان أن الكل من الله تعالى ، فقال :( تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ) قال الواحدي : وهذه الآية من الحجج الظاهرة على القدرية التي لا يبقى لهم معها عذر . قالت المعتزلة : لا تعلق للجبرية بهذه الآية لأنه تعالى لم يقل ؛ تضل بها من تشاء من عبادك عن الدين ، ولأنه تعالى قال :( تضل بها ) أي بالرجفة ، ومعلوم أن الرجفة لا يضل الله بها ، فوجب حمل هذه الآية على التأويل . فأما قوله :( إن هي إلا فتنتك ) فالمعنى : امتحانك وشدة تعبدك ؛ لأنه لما أظهر الرجفة كلفهم بالصبر عليها .
وأما قوله :( تضل بها من تشاء ) ففيه وجوه :
الأول : تهدي بهذا الامتحان إلى الجنة والثواب بشرط أن يؤمن ذلك المكلف ويبقى على الإيمان ، وتعاقب من تشاء بشرط أن لا يؤمن ، أو إن آمن لكن لا يصبر عليه .
والثاني : أن يكون المراد بالإضلال الإهلاك ، والتقدير : تهلك من تشاء بهذه الرجفة وتصرفها عمن تشاء .
والثالث : أنه لما كان هذا الامتحان كالسبب في هداية من اهتدى ، وضلال من ضل ، جاز أن يضافا إليه .
واعلم أن هذه التأويلات متسعة ، والدلائل العقلية دالة على أنه يجب أن يكون المراد ما ذكرناه ، وتقريرها من وجوه :
الأول : أن القدرة الصالحة للإيمان والكفر لا يترجح تأثيرها في أحد الطرفين على تأثيرها في الطرف الآخر ، إلا لأجل داعية مرجحة ، وخالق تلك الداعية هو الله تعالى ، وعند حصول تلك الداعية يجب الفعل وإذا ثبتت هذه المقدمات ثبت أن ، وأن الهداية من الله تعالى . الإضلال من الله تعالى
الثاني : أن أحدا من العقلاء لا يريد إلا الإيمان والحق والصدق ، فلو كان الأمر باختياره وقصده لوجب أن يكون كل واحد مؤمنا محقا ، وحيث لم يكن الأمر كذلك ثبت أن الكل من الله تعالى .
الثالث : أنه لو كان حصول الهداية والمعرفة بفعل العبد فما لم يتميز عنده الاعتقاد الحق عن الاعتقاد الباطل ، امتنع أن يخص أحد [ ص: 18 ] الاعتقادين بالتحصيل والتكوين ، لكن علمه بأن هذا الاعتقاد هو الحق وأن الآخر هو الباطل ، يقتضي كونه عالما بذلك المعتقد أولا كما هو عليه ، فيلزم أن تكون القدرة على تحصيل الاعتقاد مشروطة بكون ذلك الاعتقاد الحق حاصلا ، وذلك يقتضي كون الشيء مشروطا بنفسه وأنه محال ، فثبت أنه يمتنع أن يكون حصول الهداية والعلم بتخليق العبد ، وأما الكلام في إبطال تلك التأويلات فقد سبق ذكره في هذا الكتاب غير مرة . والله أعلم .
ثم حكى تعالى عن موسى - عليه السلام - أنه قال بعد ذلك :( أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين )
واعلم أن قوله :( أنت ولينا ) يفيد الحصر ، ومعناه أنه لا ولي لنا ولا ناصر ولا هادي إلا أنت ، وهذا من تمام ما سبق ذكره من قوله :( تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ) . وقوله :( فاغفر لنا وارحمنا ) المراد منه أن إقدامه على قوله :( إن هي إلا فتنتك ) جراءة عظيمة ، فطلب من الله غفرانها والتجاوز عنها ، وقوله :( وأنت خير الغافرين ) معناه أن كل من سواك فإنما يتجاوز عن الذنب إما طلبا للثناء الجميل أو للثواب الجزيل ، أو دفعا للربقة الخسيسة عن القلب ، وبالجملة فذلك الغفران يكون لطلب نفع أو لدفع ضرر ، أما أنت فتغفر ذنوب عبادك لا لطلب عوض وغرض ، بل لمحض الفضل والكرم ، فوجب القطع بكونه( خير الغافرين ) والله أعلم .