[ ص: 1315 ] كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين
هذه الآيات الكريمة متصلة بمحاجة اليهود، ومجادلتهم في ذات الشرع الإسلامي، وذات النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة عدم استقامتهم في طلب الحق، وأنهم كانوا يتواصون فيما بينهم ألا يؤمنوا ولا يذعنوا للحق إذ جاء إليهم، وكانوا يقولون: آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره، وقد اعترضوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالباطل وما اعترضوا عليه بحق قط، وما دفعهم إلى ذلك إلا تعصبهم المردي وظنهم أنهم أولياء الله وأحباؤه، وأن الناس جميعا مهما تكن منزلتهم دونهم، ولقد روي في الآثار، وكما تدل عبارة التوراة أنهم كانوا يحرمون على أنفسهم لحوم الإبل وألبانها، ويظهر أنهم كانوا يعيرون العرب بأن طعامهم لحم الإبل وألبانها، وأن غذاءهم الجوهري هو ذلك اللبن والتمر، ولذلك بين الله سبحانه وتعالى أنه حلال لهم أيضا أن يأكلوه، وأنه طعام لهم كما هو طعام عند العرب، وأنهم إذ حرموه على أنفسهم قد خالفوا الفطرة وخالفوا التوراة ثم ادعوا أن تحريم لحوم الإبل كان شرعة إبراهيم؛ ولقد رد الله عليهم ذلك بقوله:
كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة " حل " معناها: حلال، ومعنى النص السامي أن كل الطعام قبل التوراة كان حلالا لبني إسرائيل حتى غلظت أكبادهم، واستولت عليهم الماديات، [ ص: 1316 ] فأراد الله سبحانه وتعالى أن يفطموا نفوسهم عن أهوائها ليكبحوا جماح شهواتهم ولكيلا يندفعوا في الظلم والأهواء المردية، ولذا قال سبحانه: فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم
والطعام هو ما يطعمه الإنسان ويستسيغه ويطلبه راغبا فيه، وهو في عمومه يشمل البر والذرة والشعير، وكل المواد النباتية والحيوانية، ولذا قال تعالى: أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وقال تعالى: اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمراد: ذبائحهم. وبمقتضى هذا النص السامي يكون وأن ذلك كان شريعة كل طيب مطعوم مرغوب فيه حلالا ولا يحرم إلا الخبائث من الميتة والخنزير وغيرهما، إبراهيم عليه السلام، وأنه ما كانت لحوم الإبل ولا ألبانها من المحرمات لأنها من الطيبات، وإبراهيم وذريته على هذه الشريعة الفطرية، حتى قست قلوب بني إسرائيل ففطمها الله بذلك التحريم المؤقت.
إذن فلم يكن شيء من الإبل محرما، ولم يكن شيء من الطيبات محرما على بني إسرائيل من قبل التوراة، إلا ماحرمه إسرائيل على نفسه، وإسرائيل اسم ليعقوب بن إسحاق عليهما السلام، وقد اختلف العلماء في تخريج إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ما المراد بإسرائيل؟ أهو القبيل كله، وهم اليهود؟ أم المراد ذات يعقوب الذي هو أبو القبيل، وإليه ينتمي؟ قوله تعالى:
ذكر التخريجين، ورجح أن المراد ذات الزمخشري يعقوب عليه السلام، ويكون المعنى: إن كل الطعام كان حلالا لبني إسرائيل إلا ماكان يحرمه إسرائيل على نفسه باجتهاد منه لشخصه: إما لعلاج جسمي بأن وجد أن هذا الطعام يضره ويؤذيه، وأن الابتعاد عنه ينفعه ويجديه، كما نرى من ناس يتجنبون بعض الأطعمة لأنها لا تناسب حالهم بإشارة طبيب أمين أو بتجربة شخصية، وكل امرئ طبيب نفسه. وإما لعلاج نفسي كأن يمتنع عن بعض ألوان الطعام قناعة وفطما [ ص: 1317 ] للنفس، وما كان يتخذ ذلك شريعة تتبع، بل اتخذه علاجا شخصيا لجسمه أو لنفسه، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من الإسراف أن تأكل كل ما تشتهي " . هذا هو التخريج الأول.
أما التخريج الثاني؛ فإن مقتضاه أن بني إسرائيل هم الذين حرموا بعض الأطعمة على أنفسهم كما كان العرب يحرمون على أنفسهم بعض أنواع الأطعمة، كتحريم البحيرة ونحوها مما نعاه القرآن الكريم عليهم.
ولعل القبيل كان يحرم على نفسه الإبل مثلا تقليدا ليعقوب فيما لا يجب التقليد فيه.
ولكنهم ادعوا أن تحريمهم لبعض الأطعمة التي لم يحرمها الله تعالى عليهم كان في التوراة منسوبا لإبراهيم، ولذلك تحداهم الله سبحانه وتعالى بقوله: قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو تكليف منه تعالت قدرته بأن يطلب إليهم أن يأتوا بالتوراة ليبينوا النص الذي كان به التحريم، أهو يدل على أنه كان قبل التوراة، أم كان بعدها؟، وأيدخل في عموم التحريم تحريم لحوم الإبل وألبانها؟ و " الفاء " في قوله: فأتوا بالتوراة هي التي تسمى فاء الإفصاح، وهي تفصح عن شرط مقدر، أي: إذا كانت دعواكم تحريم الإبل في شريعة إبراهيم وقبل التوراة فأتوا بها، أي:أحضروها، و " الفاء " في قوله: فاتلوها فاء العطف، أي: فأحضروها، واتلوها عقب إحضارها، وتلاوتها أي: قراءتها بإمعان، وتبين التحدي في قوله تعالى: " إن كنتم صادقين " والتعبير بـ " إن " للإشارة إلى عدم صدقهم؛ لأنها تدل على الشك في الشرط، وعدم ترتب الجواب عليه، أي: هم ليسوا صادقين فيما يدعون، ولذلك لا يتلون ولا يقرءون.
والمؤدى: أنكم لو جئتم بها وأمعنتم في تفهمها، لكذبتكم ولأثبتت افتراءكم على الله سبحانه وتعالى، وإن ولذا قال تعالى بعد ذلك:
من افترى الكذب على الله تعالى ظالم لنفسه وللناس،