ونقل عن بعضهم أنه - عليه السلام - كان يأتيه من كل صنف من الطير واحد، وهو نص في أن المحشور ليس جميع الطير، ولا يكاد يصح إرادة الجميع في الجميع - على ما ذكره الإمام في الآية أيضا - وهو أن المعنى: أنه جعل الله تعالى كل هذه الأصناف جنوده؛ لأنه وإن لم يستدع الحضور والاجتماع في موضع واحد بل يكفي فيه مجرد الانقياد والدخول في حيطة تصرفه والاتباع له حيث كانوا - لإباء قصة بلقيس أيضا عنه، فإن المناسب الإخبار بهذا الجعل بعد الإخبار بدخولها ومن معها في حيطة تصرفه.
والظاهر أن هذا الحشر ليس إلا جمع العساكر ليذهب بهم إلى محاربة من لم يدخل في ربقة طاعته عليه السلام، وكونه ليذهب بهم إلى مكة ؛ شكرا على ما وفق له من بناء بيت المقدس خلاف الظاهر، لكن إذا صح فيه خبر قبل، وأن المجموع من الأنواع المذكورة ما يليق بشأنه وأبهته وعظمته سواء جعلت (من) بيانية أو تبعيضية.
وكونه - عليه السلام - أحد المؤمنين اللذين ملكا المعمورة بأسرها - إذا سلمنا صحة الخبر الدال عليه وسلامته من المعارض وأنه نص في المطلوب - لا يستدعي سوى دخول سكان المعمورة في عداد رعيته وحيطة ملكته، وليس ذلك دفعيا، بل هو - إن صح - كان بحسب التدريج.
وقد ذكر بعض المؤرخين أن بلقيس إنما دخلت تحت طاعته في السنة الخامسة والعشرين من ملكه، وكانت مدة ملكه - عليه السلام - أربعين سنة، وكذا كانت مدة ملك أبيه داود ، عليهما السلام.
والظاهر أن الحاشر لكل نوع من الأنواع الثلاثة أشخاص منهم، فيكون من كل نوع أشخاص مأمورون بذلك معدون له، ولا تستعبد ذلك في الطير إذا كنت من المؤمنين بقصة الهدهد، ولا يلزمك التزام ما قاله الإمام من أن الله تعالى جعل للطير عقلا في أيام سليمان - عليه السلام - ولم يجعل لها ذلك في أيامنا، فما عليك بأس إذا قلت بأنها على حالة واحدة اليوم وذلك اليوم، ولا نعني بعقلها إلا ما تهتدي به لأغراضها، ووجود ذلك اليوم فيها وكذا في غيرها من سائر الحيوانات مما لا ينكره إلا مكابر، وما علينا أن نقول: إن عقولها من حيث هي كعقول الإنسان من حيث هي.
ولعل فيها من يهتدي إلى ما لا يهتدي إليه الكثير من بني آدم كالنحل، ولعمري أنها لو كانت خالية من العقل - كما يقال - وفرض وجود العقل فيها لا أظن أنها تصنع بعد وجوده أحسن مما تصنعه اليوم وهي خالية منه، ولا يجب أن يكون كل عاقل مكلفا، فلتكن الطيور كسائر العقلاء الذين لم يبعث إليهم نبي يأمرهم وينهاهم، ويجوز أيضا أن تكون عارفة بربها مؤمنة به - جل وعلا - من غير أن يبعث إليها نبي، كمن ينشأ بشاهق جبل وحده ويكون مؤمنا بربه سبحانه، بل كونها مؤمنة [ ص: 174 ] بالله تعالى مسبحة له - وكذا سائر الحيوانات - مما تشهد له ظواهر الآيات والأخبار، وقد قدمنا بعضا من ذلك، وليس عندنا ما يجب له التأويل.
وبالغ بعضهم فزعم أنها مكلفة، وفيها - وكذا في غيرها - من الحيوانات أنبياء لهم شرائع خاصة، واستدل عليه بما استدل، والمشهور إكفار من زعم ذلك، وقد نص على إكفاره جمع من الفقهاء، وتخصيص الأنواع الثلاثة بالذكر ظاهر في أنه - عليه السلام - لم يسخر له الوحش، وفي خبر أخرجه ، عن الحاكم ما هو ظاهر في تسخيره له - عليه السلام - أيضا، وسنذكره قريبا - إن شاء الله تعالى - لكنه لا يعول عليه. محمد بن كعب
وتقديم الجن للمسارعة إلى الإيذان بكمال قوة ملكه - عليه السلام - وعزة سلطانه من أول الأمر؛ لما أن الجن طائفة عاتية، وقبيلة طاغية ماردة، بعيدة من الحشر والتسخير، ولم يقدم الطير على الإنس - مع أن تسخيرها أشق أيضا وأدل على قوة الملك وعزة السلطان - لئلا يفصل بين الجن والإنس المتقابلين والمشتركين في كثير من الأحكام.
وقيل في تقديم الجن: إن مقام التسخير لا يخلو من تحقير، وهو مناسب لهم، وليس بشيء؛ لأن التسخير للأنبياء - عليهم السلام – شرف؛ لأنه في الحقيقة لله - عز وجل - الذي سخر كل شيء، وإذا اعتبر في نفسه فالتعليل بذلك غير مناسب للمقام، ويكفي هذا في عدم قبوله.
فهم يوزعون أي يحبس أولهم ليلحق آخرهم فيكونوا مجتمعين، لا يتخلف منهم أحد، وذلك للكثرة العظيمة، ويجوز أن يكون ذلك لترتيب الصفوف كما هو المعتاد في العساكر، والأول أولى، وفيه - مع الدلالة على الكثرة والإشعار بكمال مسارعتهم إلى السير - الدلالة على أنهم كانوا مسوسين غير مهملين، لا يتأذى أحد بهم، وأصل الوزع الكف والمنع، ومنه قول - رضي الله تعالى عنه -: ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن، وقول عثمان لا بد للقاضي من وزعة، وقول الشاعر: الحسن:
ومن لم يزعه لبه وحياؤه فليس له من شيب فوديه وازع
وتخصيص حبس أوائلهم بالذكر دون سوق أواخرهم - مع أن التلاحق يحصل بذلك أيضا - لأن في ذلك شفقة على الطائفتين، أما الأوائل فمن جهة أن يستريحوا في الجملة بالوقوف عن السير، وأما الأواخر فمن جهة أن لا يجهدوا أنفسهم بسرعة السير، وقيل: إن ذلك لما أن أواخرهم غير قادرين على ما يقدر عليه أوائلهم من السير السريع.
وأخرج ، الطبراني والطستي في مسائله، عن - رضي الله تعالى عنهما - أنه يحبس أولهم على آخرهم حتى تنام الطير - والله تعالى أعلم بصحة الخبر - والظاهر أن هذا الوزع، إذا لم يكن سيرهم بتسيير الريح في الجو، والأخبار في قصته - عليه السلام - كثيرة. ابن عباس
فقد أخرج ، عن ابن أبي حاتم قال: كان يوضع سعيد بن جبير لسليمان ثلاثمائة ألف كرسي، فيجلس مؤمني الإنس مما يليه، ومؤمني الجن من ورائهم، ثم يأمر الطير فتظله، ثم يأمر الريح فتحمله، فيمرون على السنبلة فلا يحركونها.
وأخرج ، عن الحاكم قال: بلغنا أن محمد بن كعب سليمان - عليه السلام - كان معسكره مائة فرسخ، خمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للوحش، وخمسة وعشرون للطير، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية، فيأمر الريح العاصف فترفعه ثم يأمر الرخاء فتسير به.
وأوحى الله - عز وجل - إليه - وهو يسير بين السماء والأرض - أني قد زدتك في ملكك أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت به الريح إليك وألقته في سمعك.
ويروى أن الجن نسجت له [ ص: 175 ] - عليه السلام - بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ، ومنبره في وسطه من ذهب، فيصعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، فتقعد الأنبياء - عليهم السلام - على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها، وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر.
وأخرج في زوائد الزهد، عبد الله بن أحمد ، عن وابن المنذر قال: مر وهب بن منبه سليمان - عليه السلام - وهو في ملكه - وقد حملته الريح - على رجل حراث من بني إسرائيل، فلما رآه قال: سبحان الله لقد أوتي آل داود ملكا فحملتها الريح فوضعتها في أذنه فقال: ائتوني بالرجل، قال: ماذا قلت؟ فأخبره، فقال سليمان: إني خشيت عليك الفتنة، لثواب (سبحان الله) عند الله يوم القيامة أعظم مما رأيت آل داود أوتوا، فقال الحراث: أذهب الله تعالى همك كما أذهبت همي.
وفي بعض الروايات أنه - عليه السلام - نزل ومشى إلى الحراث وقال: إنما مشيت إليك؛ لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه ثم قال: لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير مما أوتي آل داود .
وأكثر الأخبار في هذا الشأن لا يعول عليها، فعليك بالإيمان بما نطق به القرآن، ودلت عليه الأخبار الصحيحة، وإياك من الانتصار لما لا صحة له مما يذكره كثير من القصاص والمؤرخين، مما فيه مبالغات شنيعة بمجرد أنها أمور ممكنة، يصح تعلق قدرته - عز وجل - بها فتفتح بذلك باب السخرية بالدين، والعياذ بالله تعالى، ولا يبعد أن يكون أكثر ما تضمن مثل ذلك من وضع الزنادقة، يريدون به التنفير عن دين الإسلام.