هذا ومن باب الإشارة في الآيات: الم تقدم الكلام عليه، وذكر بعض ساداتنا فيه أنه أشير به إلى كل الوجود من حيث هو كل لأن (أ) إشارة إلى الذات الذي هو أول الوجود وهو مرتبة الإطلاق، و (ل) إلى العقل المسمى بجبريل الذي هو وسط الوجود الذي يستفيض من المبدأ ويفيض إلى المنتهى، و (م) إلى محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو آخر الوجود، وبه تتم دائرته ولهذا كان الختم، وقال بعضهم: إن (ل) ركبت من ألفين أي وضعت بإزاء الذات مع صفة العلم اللذين هما عالمان من العوالم الثلاثة الإلهية التي أشرنا [ ص: 92 ] إليها فهو اسم من أسمائه تعالى، وأما (م) فهي إشارة إلى الذات مع جميع الصفات والأفعال التي احتجبت بها في صورة المحمدية التي هي اسم الله تعالى الأعظم بحيث لا يعرفها إلا من يعرفها، ألا ترى أن (أ) التي هي لصورة الذات كيف احتجبت فيها فإن الميم فيها الياء وفي الياء ألف ولتضمن (الم) الإشارة إلى مراتب الوجود والحقيقة المحمدية ناسب أن تفتتح بها هذه الآيات المتضمنة للرد على النصارى الذين أخطأوا في التوحيد ولم يعرفوه على وجهه، ولهذا أردفه سبحانه بقوله: الله لا إله إلا هو إذ لا موجود في سائر العوالم حقيقة إلا هو إذ لا أحد أغير من الله تعالى جل جلاله الحي أي المتصف بالحياة الكاملة على وجه يليق بذاته القيوم القائم بتدبير الأعيان الثابتة بظهوره فيها حسب استعدادها الأزلي الغير المجعول.
نزل عليك الكتاب وهو العلم المفيد لمقام الجمع وهو التوحيد الذي تفنى فيه الكثرة ولا يشاهد فيه التعدد متلبسا بالحق وهو الثابت الذي لا يعتريه تغير في ذاته مصدقا لما بين يديه من التوحيد الأول الأزلي السابق المعلوم في العهد الأول المخزون في غيب الاستعداد وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس إلى معالم التوحيد وأنزل الفرقان وهو التوحيد التفصيلي الذي هو الحق باعتبار الفرق وهو منشأ الاستقامة ومبدأ الدعوة إن الذين كفروا أي احتجبوا عن هذين التوحيدين بالمظاهر والأكوان ورؤية الأغيار ولم يؤمنوا بآيات الله تعالى الدالة على أن له سبحانه رتبة الإطلاق وله الظهور والتجلي بما شاء لهم عذاب شديد في البعد والحرمان عن حظائر العرفان، والله عزيز قاهر ذو انتقام شديد بمقتضى صفاته الجلالية.
هو الذي يصوركم في أرحام الوجود كيف يشاء لأنكم المظاهر لأسمائه والمجلى لذاته لا إله في الوجود إلا هو العزيز القاهر للأعيان الثابتة فلا تشم رائحة الوجود بنفسها أبدا، الحكيم الذي يظهرها بوجوده الحق ويتجلى بها حسبما تقتضيه الحكمة.
هو الذي أنزل عليك الكتاب متنوعا في الظهور منه آيات محكمات أحكمت من أن يتطرق إليها الاحتمال والاشتباه فلا تحتمل إلا معنى واحدا هن أم الكتاب والأصل وأخر متشابهات تحتمل معنيين فأكثر ويقع فيها الاشتباه، وذلك أن الحق تعالى له وجه واحد وهو المطلق الباقي بعد فناء خلقه لا يحتمل التكثر من ذلك الوجه وله وجوه متكثرة بحسب المرايا والمظاهر، بها يقع الاشتباه فورد التنزيل كذلك فأما الذين في قلوبهم زيغ أي ميل عن الحق فيتبعون ما تشابه منه لاحتجابهم بالكثرة عن الوحدة وما يعلم تأويله الذي يرجع إليه إلا الله ويعلمه الراسخون في العلم الذين لم يحتجبوا بأحد الأمرين عن الآخر بعلمه الذي منحوه بواسطة قرب النوافل لا بالعلم الفكري الحاصل بواسطة الأقيسة المنطقية، وبهذا يحصل الجمع بين الوقف على إلا الله والوقف على الراسخون .
وما يذكر بذلك العلم الواحد المفصل في التفاصيل المتشابهة المتكثرة إلا أولو الألباب الذين صفت عقولهم بنور الهداية وتجردت عن قشر الهوى والعادة ربنا لا تزغ قلوبنا بالنظر إلى الأكوان والاحتجاب بها عن مكونها بعد إذ هديتنا بنورك إلى صراطك المستقيم ومشاهدتك في مراتب الوجود والمرايا المتعددة وهب لنا من لدنك رحمة خاصة تمحو صفاتنا بصفاتك وظلماتنا بأنوارك إنك أنت الوهاب المعطي للقوابل حسب القابليات ربنا إنك جامع الناس على اختلاف مراتبهم ليوم لا ريب فيه وهو يوم الجمع الذي هو الوصول إلى مقام الوحدة عند كشف الغطا وطلوع شمس العيان إن الله لا يخلف الميعاد لتظهر صفاته الجمالية والجلالية ولذلك خلق الخلق وتجلى للأعيان فأظهرها كيف شاء.
هذا ثم لما بين سبحانه الدين الحق والتوحيد وذكر أحوال الكتب الناطقة به [ ص: 93 ] وشرح حال القرآن العظيم وكيفية إيمان الراسخين به أردف ذلك ببيان حال من كفر به بقوله جل شأنه: