المبحث الثاني
دور «البجناك» في انتشار الإسلام في كوسوفا
ظهرت الدعوة الإسلامية في بلاد العرب، وتمكن المسلمون في فترة وجيزة من فتح بلاد كثيرة وضمها إلى دائرة الإسلام. ونتج عن ذلك دخول شعوب وقبائل كثيرة في الإسلام، وفتح المجال أمام الأفراد والجماعات التي ضاقت بها سبل العيش في مناطقها، وتلك التي لها حماس زائد لنشر الإسلام وتثبيت أركانه في أماكن غير أماكنها؛ لأن الأرض في المصطلح الإسلامي ملك لله، وللمسلم الحق في الاستيطان فيها حيث شاء، ومن تلك الجماعات البجناكيون [1] ، وسيتركز حديثنا عن البجناكيين حول الآتي:
أولا: أصل «البجناك» ونشأتهم الأولى
يعتبر تاريخ قوم «البجناك» غامضا إلى حد بعيد؛ لعدم وجود كتابات وافية وكافية حولهم، فقواميس اللغة لم نجد فيها مادة مفيدة فيما يخص معنى كلمة «بجناك Peceneg» [2] ، وهناك معلومات قليلة في بعض المراجع، فمثلا [ ص: 87 ] ورد في الموسوعة البريطانية أن: « «البجناك» (Pechenegs or PatzinaKs lat. Bisseni) هـم قوم في شرق أوروبا لعبوا دورا مهما في القرون الوسطى» [3] .
وهناك من ذهب إلى أن «البجناك» هـم قوم من أصل تركي، عاشوا حول البحر الكاسبيكي في القرن الثامن الميلادي تقريبا [4] .
بينما نجد رحالة مشهورا في القرون الوسطى ينتمي إلى الشمال الإفريقي ألا وهو إبراهيم بن يعقوب ، زار مدينة « براغ Prag» في « شيكيا » في عام 355هـ / 965م، ولاحظ أن هـناك قبائل شمالية كبيرة تتحدث اللغة السلافية... ثم أورد من بين ما أورد منها اسم «بادشناك badshnaK» (أي البجناك) [5] .
وهناك رحالة آخر عاش في القرن العاشر الميلادي وهو « ابن داستا Ibn Dasta»، ذكر في كتابه «كتاب الكنـز الهام»: «أن المسافة بين أرض «البجناك» والسلاف عشرة أيام مشيا» [6] .
أما العالم «ي. غ. هـردر J.G.Herder» فقد ذكر في كتابه: «الفكرة عن تاريخ البشر» أن «البجناك» مثل الشعوب الأخرى، كـ «زار Zar» و «آوار Avar» بذلوا جهودا كافية في تأسيس الإمبراطورية الرومانية [ ص: 88 ] الشرقية، وجهودا جزئية أخرى في الرومانية الغربية وذلك من خلال مساعدتهم العسكرية وأحلافهم الشرقية أحيانا والغربية تارة أخرى [7] .
أما المؤرخون العرب فإنهم يرون أن «البجناك» أصلهم من العرب، يقول المؤرخ الرحالة المسلم أبو حامد الغرناطي الأندلسي : إن «البجناك» هـم المغاربة [8] ، وحجته هـذه تستند إلى معرفته العميقة لصفات المغاربة الجسمية والخلقية والمهنية، بحكم وجودهم في بلاده وقرب مناطقهم الأصلية منها، وإلى استخدام ملك المجر للمسلمين كجند مرتزقة في جيشه الذي كان يحارب به البيزنطيين، وإلى إقامته في المجر من سنة 1150م إلى سنة 1153م واحتكاكه بعدد من بقايا «البجناك» [9] .
وهناك آراء مختلفة بالنسبة لعصر ظهورهم في بلاد البلقان فبعض الباحثين يرى أن «البجناك» ظهروا في القرن الثامن، وبعضهم الآخر يرى أنهم ظهروا في القرن التاسع، وهناك طائفة ترى ظهورهم في القرون المتأخرة، ولكن الرأي الراجح هـو أنهم ظهروا في نهاية القرن الثامن الميلادي [10] . [ ص: 89 ]
ثانيا: استقرار «البجناك» في الأراضي البلقانية
تخبرنا بعض الكتابات التي تتعلق بـ «البجناك» أنهم بعد مجيئهم ومجيء الشعوب الأخرى إلى «بلغاريا» و «مقدونيا» والأراضي الأخرى في البلقان أسسوا مدنا وقرى هـنالك [11] .
ويعتقد بعض الباحثين الروس أن جماعة منظمة من «البجناك» ظهرت لأول مرة في هـونغاريا (المجر) في القرن العاشر، وفي الحقيقة في عصر الملك البلغاري « سايمون – Simeoni»، الذي استغل «البجناك» في الدفاع عن بلاده ضد المجريين [12] .
وأورد المعلومة السالفة الذكر نفسها تقريبا العالم «غ. أوستروغورسكي G. OstrogorsKi»، الذي أكد أن الملك البلغاري « سايمون » كان مهددا من البيزنطيين والمجريين، ولا سبيل أمامه إلا الاستعانة بالشعب العسكري البدوي «البجناك»، وهم من سكان المنخفضات الجنوبية لروسيا، وبمساعدة «البجناك» استطاع «سايمون» أن يغلب المجريين... وأن ينتصر على البيزنطيين في عام 283ه/896 م [13] . [ ص: 90 ] وبناء على وجهة نظر الباحثين الروس فإن «البجناك»، منذ القرن الحادي عشر وبأعداد كثيرة، قد تركوا السهوب [14] الروسية واستقروا في المجر وفي بيزنطة .. وإضافة إلى استقرار «البجناك» في بلاد البلقان فإن هـناك مجموعات أخرى من المسلمين العرب والبلغار قد استقرت إلى جانبهم فيها [15] . والعالم الجغرافي المسلم الأندلسي « أبو عبيد الله البكري » (عاش في القرن الحادي عشر الميلادي) قدم لنا معلومات مهمة تتعلق بـ «البجناك»، حين وصفهم هـم والألمان والسيلزيان بأنهم جيران للسلاف [16] .
ومن جانب آخر يؤكد العالم « ل. هـاؤوبتمان Lj. Hauptman» أن هـناك إشارات موجودة منذ 337هـ / 948 م تدل على المجاورة «الكرواتية – البجناكية» [17] .
وهناك معلومات أخرى تقول: إن سبعة من المسلمين البلغار
[18] هـاجروا إلى البلاد المجرية واهتموا بالدعوة الإسلامية، ونتيجة لجهود هـؤلاء المسلمين [ ص: 91 ] السبعة تكونت جماعة إسلامية في بلاد المجر أطلق عليها اسم «Pecenjega» (أي البجناك) ، واستطاعت هـذه المجموعة أن تقوم بدور عظيم في نشر الثقافة العربية الإسلامية في أوروبا الوسطى، بحيث انتشرت في بداية الأمر في الأراضي المجرية وذلك في القرن العاشر الميلادي، ثم بعد ذلك تمكنت هـذه الجماعة من أن تصبح قوة عسكرية قادرة على الدفاع عن نفسها، وفي القرن الحادي عشر كانت تلك المجموعة من «البجناك» تقاتل من ضمن تشكيلة الجيش المجري ضد الإمبراطورية البيزنطية، وهناك أناس من سكان مدينة « سريم » [19] قد انضموا إلى هـذه المجموعة الإسلامية «البجناك».
وإضافة إلى ذلك قدم لنا العالم أبو حامد الغرناطي الأندلسي معلومات قيمة تتعلق بهذه المجموعة، استقاها من خلال زيارته للبلاد المجرية في القرن الثاني عشر؛ ومما ورد فيها: أن كثيرا من المسلمين كانوا جزءا لا يتجزأ من الجيش المجري في عديد من الحروب، التي وقعت بين المجر والإمبراطورية البيزنطية، وذلك خلال السنوات 546– 550هـ / 1151–1155م، وكانت المجر تسمح لتلك المجموعة الإسلامية بأن يمارس أفرادها شعائرهم الدينية دون أن يضغط عليهم أحد [20] . [ ص: 92 ] وهناك باحثة سلافية هـي « يووانكا كاليتش – JovanKa Kaliç»، درست رحلة أبي حامد الغرناطي ، وأكدت قتال المجموعات الإسلامية التي ذكرها الغرناطي إلى جانب المجريين، ونسبت هـذه المجموعة إلى مدينة « سريم » [21] .
ثالثا: النشاط العسكري والتحركات الأخرى للبجناك في الأراضي البلقانية
ظهر «البجناك» في منطقة البلقان، وتميزوا على غيرهم بقدراتهم العسكرية المتميزة، التي استفادت منها الدول التي تعاقبت على حكم البلقان، ومن بينها إيليريا وبلغاريا ومقدونيا وبيزنطة وثراقيا واليونان . أما «البجناك» أنفسهم فقد فقدوا العديد من رجالاتهم وهم يؤدون هـذه الخدمات لهذه الدول. ولتسليط مزيد من الضوء على «البجناك» فضلنا أن ندرس بجناك ألبانيا ودورهم الديني والاجتماعي والسياسي [22] .
رابعا: البجناكيون والألبانيون
نشأت فعالية «البجناك» العسكرية والثقافية في بلاد البلقان وخاصة في الأراضي الإيليرية – الألبانية في فترة كانت فيها هـذه المناطق مستعمرة ولعدة قرون. ونتيجة لهذه الوضعية التي كانت تعيشها بلاد البلقان فإن البجناكيين لـم يحدث بينهم وبين سكانـها الأصليين أي احتكاك ثقافي أو عسكري [ ص: 93 ] أو تجاري ذي بال، وإنما كان احتكاكهم يتم وبصورة واضحة مع القوى والدول التي كانت مستعمرة للألبانيين وبلادهم [23] .
فالإمبراطور البيزنطي « قنسطنطين Konstantin» الذي كان مهددا بأخطار الأجـانب، وخاصة الأتراك، حاول أن يستغل «البجناك» في التصدي لأعدائه فجند منهم عشـرة آلاف، وزودهم بالأسـلحة، ووجههم ضد الأتراك، ولكن «البجناك» لم يكونوا مؤمنين بتلك الحرب، والسبب الذي دفعهم إلى عدم مساندة الإمبراطور البيزنطي ضد الأتراك هـو العقيدة الإسلامية التي كانت تجمعهم مع إخوانهم الأتراك، ولذلك استغلوا الفرصة وفروا باتجاه مدينة « بريزرن Prizren» الكوسوفية حاليا، وانضموا فيها إلى مجمـوعة أخرى من «البجناك» الذين استقروا فيها من قبل، وكونوا فريقا مشتركا تمكنوا في نـهاية المطاف من أن ينقـلبوا على أسيادهم المستعمرين [24] .
وقد ترك «البجناك» بصماتهم واضحة في هـذه المنطقة، إلى جانب الشعوب التي سبقتهم أو جاءت بعدهم إليها كالكومان والكيبشاك، ويؤيد ذلك تلك الأسماء التي عرفتها منطقة البلقان في العصور الوسطى واستمرت إلى اليوم، ومنها: « بالابان Ballaban»، « بيليبان Biliban»، « تاتار Tatar»، [ ص: 94 ] « سوبلان Coplan»، « غوربان Gurban»، « كارا Kara»، « كارابا Karaba»، « كومان Kuman»، « شيشمان Shishman»، « توكمان ToKman»، « ساكان Caqan»، « بابون Babun» [25] .
خامسا: إيمان البجناكيين وثقافتهم الإسلامية
أدى اختراق «البجناك» والشعوب الأخرى لبلاد البلقان واستقرار مجموعات منهم لعدة قرون فيها إلى بعض التغيرات الديموغرافية المحدودة وبالتحديد في الشمال لمدينة « نيش » الحالية، وفقا لوجهة نظر العالم « ك. ييرشيك K. JireçeK» [26] . كما أن الرحالة الذين جابوا تلك المناطق في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين أكدوا وجود «البجناك» في الأراضي البلقانية، وأنهم كانوا على دين الإسلام، وأنهم قد أثروا في الحياة الاقتصادية والدينية [27] ، وهو ما أكده بدوره المؤرخ والعالم البوسنوي « محمد حاجي ياهيج » [28] .
وقد كان «البجناكيون» على معرفة ممتازة بالثقافة الإسلامية، واهتمام بالغ بالإسلام، وكانوا يرسلون طلابا منهم إلى بلاد الشام وبالتحديد إلى [ ص: 95 ] مدينة « حلب » لدراسة الدين الإسلامي ليقوموا بعد رجوعهم إلى أوطانهم بتبصير الآخرين بأمور دينهم، وبهذه الطريقة تمكن «البجناكيون» من حمل الثقـافة العربية الإسـلامية ونشرها في المناطق المجرية وفي يوغسلافيا السابقة وفي المناطق الأخرى من بلاد البلقان . واستطاعت هـذه المجموعة الإسلامية أن تستمر وبفاعلية في نشر الثقافة العربية الإسلامية في تلك المناطق إلى أن شعر مـلوك المجر بخطورتـهم على مستقبلهم السياسي فبدأوا في اضطهادهم وتعـذيبهم وإبعادهم عن أماكنهم حتى أجلوهم عن بكرة أبيهم [29] .
ويؤكد المستشرق الصربي « راد بوشوويتش Rade Bozhoviq» أن «البجناك» المسلمين قد نقلوا الثقافة العربية الإسلامية إلى البلقان، وهو في ذلك يتفق مع كثير من المؤرخين، ولكن عندما وصل العثمانيون المسلمون إلى بلاد البلقان لم يجـدوا هـؤلاء القوم المسـلمين ولا آثارهم (!) ويبـدو أن وصول الصرب إلى هـذه المناطق البلقانية، في الفترة الممتدة بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر الميلاديين، قد أدى إلى هـلاك «البجناك» ومحو آثارهم هـنالك [30] . [ ص: 96 ] إذن، فإن الدين الإسلامي قد تمكن أن يجد طريقه إلى بلاد البلقان قبل أن يفتحها العثمانيون المسلمون، وليس من المستبعد أن يكون «البجناكيون» المسلمون من الدعاة المخـلصين للدعوة الإسلامية، الذين حلوا ببلاد البلقان من أجل تبليغ الدين الإسلامي إلى شعوبها المختلفة، وإنـهم لظروف ما قد اختفوا من مسرح الأحداث قبل ظهور العثمانيين في بلاد البلقان، ولكنهم قد خلفوا وراءهم آثارا قوية فيما يتعلق بالإسلام والثقافة الإسلامية [31] .
سادسا: اختفاء «البجناك» من بلاد البلقان
بعد إبراز الدور الذي الذي قام به «البجناك» في بلاد البلقان يمكن أن نتساءل: هـل يوجد اليوم أحد من الشعب البجناكي في بلاد البلقان؟ والجـواب الصريح أنه لا يوجـد أحـد في بلاد البلقـان ينسب نفسه إلى «البجناك»، ولكن هـنـاك آثارا موجودة للشعب «البجناكي». وقد اندثر الشعب «البجناكي» قبل مجيء الدولـة العثمانية إلى بلاد البلقان، ويبدو أن الحروب التي دارت بينهم وبين البيزنطيين والمجريين والبلغاريين والصربيين والشعوب الأخرى قد أدت إلى هـلاك معظمهم، وإلى تشريد من تبقى منهم، وتوزعهم على مناطق أخرى من العالم، بعيدة عن أماكن تمركز ونفوذ أعدائهم [32] . [ ص: 97 ] ويؤكد العالم الفرنسي « جورجس قستلان – Georges Castellan» محو قوم «البجناك» من المشهد التاريخي، مشيرا إلى أن: «الغاغاءوزيين Gagauzet» هـم أخلاف البجناكيين الذين تحولوا إلى النصارى [33] . مما يعني أن البجناكيين قد اضطروا إلى التنصر والدخول في ديانات أعدائهم، على الرغم من أن البجناكيين الأوائل كان مشهودا لهم بالتمكن في الإسلام والثقافة الإسلامية، حيث عرفوا بقناديل الإسلام في بلاد البلقان عامة وفي الأراضي الإيليرية – الألبانية خاصة [34] . [ ص: 98 ]