قال أبو جعفر : قرأت عامة القرأة : ( ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) ، بضم "التاء" من "تسأل" ، ورفع "اللام" منها على الخبر ، بمعنى : يا محمد إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ، فبلغت ما أرسلت به ، وإنما عليك البلاغ والإنذار ، ولست مسئولا عمن كفر بما أتيته به من الحق ، وكان من أهل الجحيم .
وقرأ ذلك بعض أهل المدينة : ( ولا تسأل ) جزما . بمعنى النهي ، مفتوح "التاء" من "تسأل" ، وجزم "اللام" منها . ومعنى ذلك على قراءة هؤلاء : إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا لتبلغ ما أرسلت به ، لا لتسأل عن أصحاب الجحيم ، فلا تسأل عن حالهم . وتأول الذين قرءوا هذه القراءة ما : -
1875 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ، عن وكيع موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليت شعري ما فعل أبواي؟ فنزلت : ( ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) .
1876 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن موسى بن عبيدة عن قال ، محمد بن كعب القرظي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليت شعري ما فعل أبواي؟ ليت شعري ما فعل أبواي؟ ليت شعري ما فعل أبواي؟" ثلاثا ، فنزلت : ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) ، فما ذكرهما حتى توفاه الله . [ ص: 559 ]
1877 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن قال ، أخبرني ابن جريج داود بن أبي عاصم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم : "ليت شعري أين أبواي؟" فنزلت : ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) .
قال أبو جعفر : والصواب عندي من القراءة في ذلك قراءة من قرأ بالرفع ، على الخبر؛ لأن الله - جل ثناؤه - قص قصص أقوام من اليهود والنصارى ، وذكر ضلالتهم ، وكفرهم بالله ، وجراءتهم على أنبيائه ، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( إنا أرسلناك ) يا محمد ( بالحق بشيرا ) ، من آمن بك واتبعك ممن قصصت عليك أنباءه ومن لم أقصص عليك أنباءه ، ( ونذيرا ) من كفر بك وخالفك ، فبلغ رسالتي ، فليس عليك من أعمال من كفر بك - بعد إبلاغك إياه رسالتي تبعة ، ولا أنت مسئول عما فعل بعد ذلك . ولم يجر - لمسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه عن أصحاب الجحيم ذكر ، فيكون لقوله : ( ولا تسأل عن [ ص: 560 ] أصحاب الجحيم ) وجه يوجه إليه ، وإنما الكلام موجه معناه إلى ما دل عليه ظاهره المفهوم ، حتى تأتي دلالة بينة تقوم بها الحجة ، على أن المراد به غير ما دل عليه ظاهره ، فيكون حينئذ مسلما للحجة الثابتة بذلك! ولا خبر تقوم به الحجة على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن أن يسأل - في هذه الآية عن أصحاب الجحيم ، ولا دلالة تدل على أن ذلك كذلك في ظاهر التنزيل . والواجب أن يكون تأويل ذلك الخبر على ما مضى ذكره قبل هذه الآية ، وعمن ذكر بعدها من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر ، دون النهي عن المسألة عنهم .
فإن ظن ظان أن الخبر الذي روي عن محمد بن كعب صحيح ، فإن في استحالة الشك من الرسول عليه السلام - في أن أهل الشرك من أهل الجحيم ، وأن أبويه كانا منهم ، ما يدفع صحة ما قاله محمد بن كعب ، إن كان الخبر عنه صحيحا ، مع أن ابتداء الله الخبر بعد قوله : ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ) ، ب "الواو" - بقوله : ( ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) ، وتركه وصل ذلك بأوله ب "الفاء" ، وأن يكون : "إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا فلا تسأل عن أصحاب الجحيم" - أوضح الدلالة على أن الخبر بقوله : "ولا تسأل" ، أولى من النهي ، والرفع به أولى من الجزم . وقد ذكر أنها في قراءة أبي : ( وما تسأل ) ، وفي قراءة ابن مسعود : ( ولن تسأل ) ، وكلتا هاتين القراءتين تشهد بالرفع والخبر فيه ، دون النهي . [ ص: 561 ]
وقد كان بعض نحويي البصرة يوجه قوله : ( ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) إلى الحال ، كأنه كان يرى أن معناه : إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا غير مسئول عن أصحاب الجحيم . وذلك إذا ضم "التاء" ، وقرأه على معنى الخبر ، وكان يجيز على ذلك قراءته : "ولا تسأل" ، بفتح "التاء" وضم "اللام" على وجه الخبر بمعنى : إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ، غير سائل عن أصحاب الجحيم . وقد بينا الصواب عندنا في ذلك .
وهذان القولان اللذان ذكرتهما عن البصري في ذلك ، يدفعهما ما روي عن ابن [ ص: 562 ] مسعود وأبي من القراءة؛ لأن إدخالهما ما أدخلا من ذلك من "ما" و"لن" يدل على انقطاع الكلام عن أوله وابتداء قوله : ( ولا تسأل ) ، وإذا كان ابتداء لم يكن حالا .
وأما ( أصحاب الجحيم ) ، ف "الجحيم" ، هي النار بعينها إذا شبت وقودها ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
إذا شبت جهنم ثم دارت وأعرض عن قوابسها الجحيم