جملة مستأنفة ، أصل نظم الكلام فيها : تود كل نفس لو أن بينها وبين ما عملت من سوء أمدا بعيدا يوم تجد ما عملت من خير محضرا . فقدم ظرفها على عامله على طريقة عربية مشهورة الاستعمال في أسماء الزمان ، إذا كانت هي المقصود من الكلام ، قضاء لحق الإيجاز بنسج بديع . ذلك أنه إذا كان اسم الزمان هو الأهم في الغرض المسوق له الكلام ، وكان مع ذلك ظرفا لشيء من علائقه ، جيء به منصوبا على الظرفية ، وجعل معنى بعض ما يحصل منه مصوغا في صيغة فعل عامل في ذلك الظرف . أو أصل الكلام : ، فتود في ذلك اليوم لو أن بينها وبين ما عملت من سوء أمدا بعيدا ، أي زمانا متأخرا وأنه لم يحضر ذلك اليوم . فالضمير في قوله " وبينه " على هذا يعود إلى ما عملت من سوء ، فحول التركيب ، وجعل " تود " هو الناصب لـ " يوم " ليستغنى بكونه ظرفا عن كونه فاعلا . أو يكون أصل الكلام : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير ومن شر محضرا ، تود لو أن بينها وبين ذلك اليوم أمدا بعيدا ; ليكون ضمير " بينه " عائدا إلى " يوم " أي تود أنه تأخر ولم يحضر كقوله : يحضر لكل نفس في يوم الإحضار ما عملت من خير وما عملت من سوء رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وهذا التحويل من قبيل قول امرئ القيس :
ويوما على ظهر الكثيب تعذرت علي وآلت حلفة لم تحـلـل
فإن مقصده ما حصل في اليوم ، ولكنه جعل الاهتمام بنفس اليوم ، لأنه ظرفه . ومنه ما يجيء في القرآن غير مرة ، ويكثر مثل هذا في الجمل المفصول بعضها عن بعض بدون عطف لأن الظرف والمجرور يشبهان الروابط ، فالجملة المفصولة إذا صدرت بواحد منها أكسبها ذلك نوع ارتباط بما قبلها كما في هذه الآية ، وقوله تعالى : إذ قالت امرأة عمران ونحوهما ، وهذا أحسن الوجوه في نظم هذه الآية وأومأ إليه في الكشاف .[ ص: 224 ] وقيل منصوب بـ " اذكر " . وقيل متعلق بقوله المصير وفيه بعد لطول الفصل ، وقيل بقوله ويحذركم وهو بعيد ، لأن التحذير حاصل من وقت نزول الآية ، ولا يحسن أن يجعل عامل الظرف في الآية التي قبل هذه لعدم التئام الكلام حق الالتئام .
فعلى الوجه الأول قوله " تود " هو مبدأ الاستئناف ، وعلى الوجوه الأخرى هو جملة حالية من قوله : وما عملت من سوء .
وقوله : ويحذركم الله نفسه يجوز أن يكون تكريرا للتحذير الأول لزيادة التأكيد كقول لبيد :
فتنازعا سبطا يطير ظلالـه كدخان مشعلة يشب ضرامها
مشمولة غلثت بنابت عرنـج كدخان نار ساطع أسنامهـا
والخطاب للمؤمنين ولذلك سمى الموعظة تحذيرا : لأن المحذر لا يكون متلبسا بالوقوع في الخطر ، فإن التحذير تبعيد من الوقوع وليس انتشالا بعد الوقوع ، وذيله هنا بقوله والله رءوف بالعباد ، للتذكير بأن هذا التحذير لمصلحة المحذرين .
والتعريف في " العباد " للاستغراق : لأن مسلمهم وكافرهم رأفة الله شاملة لكل الناس ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ، الله لطيف بعباده وما وعيدهم إلا لجلب صلاحهم ، وما تنفيذه بعد فوات المقصود منه إلا لصدق كلماته ، وانتظام حكمته سبحانه . ولك أن تجعل " أل " عوضا عن المضاف إليه أي بعباده فيكون بشارة للمؤمنين .