105- سورة الفيل
مكية، وآيها خمس.
[ ص: 6259 ] بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى:
[ 1 - 5 ] ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل يعني الذين قدموا من اليمن يريدون تخريب الكعبة من الحبشة، ورئيسهم أبرهة الحبشي الأشرم. كما سيأتي.
قال أبو السعود: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والهمزة لتقرير رؤيته صلى الله عليه وسلم بإنكار عدمها. والرؤية علمية، أي: ألم تعلم علما رصينا متاخما للمشاهدة والعيان، باستماع الأخبار المتواترة، ومعاينة الآثار الظاهرة. وتعليق الرؤية بكيفية فعله عز وجل لا بنفسه، بأن يقال: ألم تر ما فعل ربك إلخ; لتهويل الحادثة والإيذان بوقوعها على كيفية هائلة وهيئة عجيبة دالة على وعزة بيته وشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم. عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته
فإن ذلك من الإرهاصات; لما روي أن القصة وقعت في السنة التي ولد فيها النبي صلى الله عليه وسلم، كما سنأثره.
وقوله تعالى: ألم يجعل كيدهم في تضليل بيان إجمالي لما فعل بهم، أي: ألم يجعل مكرهم وسعيهم لتخريب الكعبة في تضييع وإبطال لما حاولوا، وتدميرهم أشد تدمير.
قال الرازي: اعلم أن الكيد هو إرادة مضرة بالغير على الخفية. إن قيل: لم سماه [ ص: 6260 ] كيدا وأمره كان ظاهرا، فإنه كان يصرح أنه يهدم البيت؟ (قلنا): نعم، لكن الذي كان في قلبه شر مما أظهر; لأنه كان يضمر الحسد للعرب، وكان يريد صرف الشرف الحاصل لهم بسبب الكعبة، منهم ومن بلدهم، إلى نفسه وإلى بلدته وأرسل عليهم طيرا أبابيل أي: طوائف متفرقة، يتبع بعضها بعضا من نواح شتى، و (أبابيل) جمع لا واحد له، على ما حكاه أبو عبيدة . وزعم والفراء أبو جعفر الرؤاسي -وكان ثقة- أنه سمع واحدها إبالة، بكسر الهمزة وتشديد الموحدة. وهي حزمة الحطب، استعير لجماعة الطير. وحكى عن بعض النحويين في مفردها (أبول)، وعن آخرين: (أبيل)، سماعا كما أثره الكسائي . والتنكير في "طيرا" إما للتحقير، فإنه مهما كان أحقر كان صنع الله أعجب وأكبر، أو للتفخيم، كأنه يقول: وأي طير ترمي بحجارة صغيرة فلا تخطئ المقتل، أفاده ابن جرير الرازي.
ترميهم بحجارة من سجيل أي: من طين متحجر. وروى عن ابن وهب ابن زيد أن المعني بالسجيل السماء الدنيا لأن اسمها سجيل.
قال : وهذا القول الذي قاله ابن جرير ابن زيد لا نعرف لصحته وجها في خبر ولا عقل ولا لغة. وأسماء الأشياء لا تدرك إلا من لغة سائرة أو خبر من الله تعالى ذكره.
فجعلهم كعصف مأكول قال : كزرع أكلته الدواب فراثته، فيبس وتفرقت أجزاؤه، شبه تقطع أوصالهم بالعقوبة التي نزلت بهم، وتفرق آراب أبدانهم بها، بتفرق أجزاء الروث، الذي حدث عن أكل الزرع. ابن جرير
قال الشهاب: ولم يذكر الروث لهجنته، فجاء على الآداب القرآنية. وفيه إظهار تشويه حالهم.
[ ص: 6261 ] وقال أبو مسلم : (العصف) التين، لقوله: ذو العصف والريحان لأنه تعصف به الريح عند الذر، فتفرقه عن الحب وهو إذا كان مأكولا فقد بطل ولا رجعة له ولا منعة فيه. انتهى.
ومن الوجوه في الآية أن يكون المعنى: كزرع قد أكل حبه وبقي تبنه، والتقدير كعصف مأكول الحب، كما يقال فلان حسن الوجه، فأجرى "مأكول" على (العصف) من أجل أنه أكل حبه; لأن هذا المعنى معلوم. ومنها أيضا أن معنى "مأكول" مما يؤكل، يعني تأكله الدواب، يقال لكل ما يصلح للأكل و(هو مأكول)، والمعنى جعلهم كتبن تأكله الدواب في التفرق والتفتت والهلاك، أشار له الرازي.
تنبيهات:
الأول: كان السبب الذي من أجله حلت مسير عقوبة الله تعالى لأصحاب الفيل، أبرهة الحبشي بجنده مع الفيل على بيت الله الحرام لتخريبه. وواقعة الفيل في ذاتها معروفة متواترة الرواية، حتى إنهم جعلوها مبدأ تاريخ يحددون به أوقات الحوادث; فيقولون: ولد وحدث كذا لسنتين بعد عام الفيل، ونحو ذلك. وتفصيل نبئها ما أثره عام الفيل، : أن ابن هشام أبرهة الحبشي كان أمير صنعاء ، وكان ذا دين في النصرانية، فبنى بصنعاء كنيسة لم ير مثلها في زمانها، ثم كتب للنجاشي : إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب. فلما تحدثت العرب بكتاب للنجاشي أبرهة ذلك إلى غضب رجل من كنانة فخرج حتى أتى الكنيسة فقعد فيها -(أي: أحدث فيها)- ثم خرج فلحق بأرضه. فأخبر بذلك النجاشي أبرهة، فقال: من صنع هذا؟ فقيل: صنع هذا رجل من العرب من أهل هذا البيت الذي تحج العرب إليه بمكة، لما سمع قولك: (أصرف إليها حج العرب); غضب فجاء فقعد فيها، أي: أنها ليست لذلك بأهل. فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه. ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت، ثم سار وخرج معه بالفيل. [ ص: 6262 ] وسمعت بذلك العرب فأعظموه وفظعوا به، ورأوا جهاده حقا عليهم، حين سمعوا بأنه يريد بيت الله الحرام. فخرج إليه رجل كان من أشراف أهل هدم الكعبة اليمن وملوكهم يقال له: ذو نفر، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله الحرام، وما يريد من هدمه وإخرابه. فأجابه إلى ذلك من أجابه. ثم عرض له فقاتله فهزم ذو نفر وأصحابه وأتي به أسيرا، فلما أراد قتله قال له ذو نفر: أيها الملك! لا تقتلني فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي، فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق -وكان أبرهة رجلا حليما- ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خثعم عرض نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلي خثعم: شهران وناهس، ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ له نفيل أسيرا، فأتى به، فلما هم بقتله، قال له نفيل: أيها الملك! لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي لك على قبيلة خثعم: شهران وناهس، بالسماع والطاعة. فخلى سبيله وخرج به معه يدله، حتى إذا مر بالطائف خرج له مسعد بن معتب الثقفي في رجالة ثقيف، فقالوا له: أيها الملك! إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد -يعنون اللات- إنما تريد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عليه. فتجاوز عنهم -واللات بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة- فبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة. فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمس، فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك: فرجمت قبره العرب -فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس -فلما نزل أبرهة المغمس بعث رجلا من الحبشة يقال له: الأسود بن مفصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة، فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به، فتركوا ذلك. وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وقال له: سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم، ثم قل له: إن الملك يقول لك: إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا لنا دونه بحرب فلا حاجة لي في دمائكم.
[ ص: 6263 ] فإن هو لم يرد حربي فأتني به، فلما دخل حناطة مكة سأل من سيد قريش وشريفها؟ فقيل له: عبد المطلب بن هاشم، فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة. فقال له عبد المطلب: والله! ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة; هذا بيت الله الحرام وبيت خليله عليه السلام -(أو كما قال)- فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبينه، فوالله! ما عندنا دفع عنه. فقال له حناطة: فانطلق معي إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك. فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتى المعسكر، فسأل عن ذي نفر وكان له صديقا حتى دخل عليه وهو في محبسه. فقال له: يا ذا نفر! هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ فقال له ذو نفر: وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوا وعشيا، ما عندي غناء في شيء مما نزل بك، إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي فسأرسل إليه وأوصيه بك وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فيكلمه بما بدا لك ويشفع لك عنده بخير، إن قدر على ذلك. فقال: حسبي. فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عين مكة: يطعم الناس بالسهل، والوحوش في رؤوس الجبال. وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فاستأذن له عليه وانفعه عنده بما استطعت. فقال: أفعل. فكلم أنيس أبرهة فقال له: أيها الملك! هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك وهو صاحب عين مكة، وهو يطعم الناس في السهل، والوحوش في رؤوس الجبال، فأذن له عليك فليكلمك في حاجته. قال: فأذن له أبرهة. قال: وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم، فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه وأكرمه عن أن يجلس تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك؟ فقال له ذلك الترجمان. فقال: حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي، فلما قال له ذلك قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه؟ قال عبد المطلب: إني أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه. قال: وما كان ليمتنع مني؟ قال: [ ص: 6264 ] أنت وذاك. وكان، فيما يزعم أهل العلم، قد ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة حين بعث إليه حناطة -يعمر بن نفاثة سيد بني بكر وخويلد بن واثلة سيد هذيل- فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم لا يهدم البيت، فأبى عليهم. والله أعلم أكان ذلك أم لا.
فرد أبرهة على عبد المطلب الإبل التي أصاب له. فلما انصرفوا عنه، انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب; تخوفا عليهم من معرة الجيش. ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لا هم إن العبد يمـ ـنع رحله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم
ومحالهم عدوا محالك إن كنت تاركهم وقبـ
ـلتنا فأمر ما بدا لك
ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال، فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها. فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله وعبى جيشه، وأبرهة مجمع لهدم البيت ثم الانصراف إلى اليمن، فلما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل فأخذ بأذنه، فقال له: ابرك، أو: ارجع راشدا من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام، ثم أرسل أذنه فبرك الفيل: وخرج نفيل يشتد حتى أصعد في الجبل. وضربوا الفيل ليقوم، فضربوا رأسه ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه بها -أي: أدموه- ليقوم فأبى، فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك. وأرسل الله تعالى طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أمثال الحمص والعدس، لا تصيب أحدا إلا هلك، وليس كلهم أصابت. وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي [ ص: 6265 ] منه جاؤوا يسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:
أين المفر والإله الطالب والأشرم المغلوب ليس الغالب
فخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلكون بكل مهلك على كل منهل. وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة، كلما سقطت منه أنملة أتبعتها منه مدة تمث -أي: تسيل- قيحا ودما حتى، قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، فيما يزعمون.
قال : حدثني ابن إسحاق أنه حدث أن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب، ذلك العام. يعقوب بن عتبة
قال : فلما بعث الله ابن إسحاق محمدا صلى الله عليه وسلم كان مما يعد الله على قريش من نعمته عليهم وفضله، ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم، فقال تعالى: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل السورة.
ثم قال : فلما رد الله الحبشة عن ابن إسحاق مكة، وأصابهم بما أصابهم به من النقمة، أعظمت العرب قريشا وقالوا: أهل الله; قاتل الله عنهم وكفاهم مؤونة عدوهم. فقالوا في ذلك أشعارا يذكرون فيها ما صنع الله بالحبشة، وما رد عن قريش من كيدهم. ثم ساق القصائد في ذلك.
وإنما آثرت في سياقها ما رواه عن ابن هشام ; لأنه أحسن اقتصاصا وأبلغ سبكا، لإثارته عن صميم العربية روايات نبغاء رجالها، فرحمه الله ورضي عنه. ابن إسحاق
التنبيه الثاني: إنما أضيف أمر القصة إلى الفيل واشتهرت به; لاصطحابهم الفيل معهم للبطش والتخريب، فإنه لو تم لقائديه كيدهم، لكان الفيل يدهم العاملة وسهمهم النافذ; وذلك أن جبابرة البلاد التي يوجد فيها الفيل يتخذونه آلة بطش وانتقام، فإذا غضبوا على محارب أسروه، أو وزير أوثقوه، أو بلد ونازلوا حصنه أرسلوا على دار المغضوب عليه أو حصنه الفيل، فنطح برأسه ونابه الصرح فيدكه، وقواعد البنيان فيهدمها; فيكون أمضى من معاول وفؤوس، وأعظم رعبا ورهبة في النفوس، وربما ألقوا المسخوط عليه بين يديه، فأعمل فيه [ ص: 6266 ] نابه، ولف عليه خرطومه وشاله، ومثل به تمثيلا كان أشد بطشا وتنكيلا. وقد حدثني بغرائب هذه الفظائع الجاهلية بعض آل ملوك الأفغان لما أقام مدة بالشام.
الثالث: قال القاشاني: مشهورة، وواقعتهم قريبة من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهي إحدى آيات الله، وأثر من سخطه على من اجترأ عليه بهتك حرمه، وإلهام الطيور والوحوش أقرب من إلهام الإنسان لكون نفوسهم ساذجة. وتأثير الأحجار بخاصية أودعها الله تعالى فيها ليس بمستنكر. ومن اطلع على عالم القدرة، وكشف له حجاب الحكمة، عرف لمية أمثال هذه. قصة أصحاب الفيل
قال: وقد وقع في زماننا مثلها من استيلاء الفأر على مدينة أبيورد وإفساد زروعهم ورجوعها في البرية إلى شط جيحون، وأخذ كل واحدة منها خشبة من الأيكة التي على شط نهرها وركوبها عليها وعبورها بها من النهر.
الرابع: قال الإمام في (أعلام النبوة): آيات الملك باهرة، وشواهد النبوات قاهرة، تشهد مباديها بالعواقب فلا يلتبس بها كذب بصدق، ولا منتحل بمحق، وبحسب قوتها وانتشارها يكون بشائرها وإنذارها. ولما دنا مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاطرت آيات نبوته وظهرت آيات بركته، فكان من أعظمها شأنا، وأظهرها برهانا، وأشهرها عيانا وبيانا أصحاب الفيل، أنفذهم الماوردي من أرض الحبشة في جمهور جيشه على النجاشي مكة لقتل رجالها وسبي ذراريها وهدم الكعبة. وآية الرسول في قصة الفيل أنه كان في زمانها حملا في بطن أمه بمكة; لأنه ولد بعد خمسين يوما من الفيل، فكانت آيته في ذلك من وجهين:
أحدهما: أنهم لو ظفروا لسبوا واسترقوا; فأهلكهم الله تعالى لصيانة رسوله أن يجري عليه السبي حملا ووليدا. والثاني: أنه لم يكن لقريش من التأله ما يستحقون به دفع أصحاب الفيل عنهم، وما هم أهل كتاب لأنهم كانوا بين عابد صنم أو متدين وثن أو قائل بالزندقة أو مانع من الرجعة، ولكن لما أراده الله تعالى من ظهور الإسلام تأسيسا للنبوة وتعظيما للكعبة، وأن يجعلها قبلة للصلاة ومنسكا للحج.
فإن قيل: فكيف منع عن الكعبة قبله مصيرها قبلة ومنسكا، ولم يمنع من هدمها وقد صارت قبلة ومنسكا حتى أحرقها ونصب المنجنيق عليها؟ الحجاج
[ ص: 6267 ] قيل: فعل كان بعد استقرار الدين، فاستغنى عن آيات تأسيسه، وأصحاب الفيل كانوا قبل ظهور النبوة فجعل المنع منها آية لتأسيس النبوة ومجيء الرسالة، على أن الرسول الحجاج « قد أنذر بهدمها » فصار الهدم آية بعد أن كان المنع آية، فلذلك اختلف حكمها في الحالين، والله تعالى أعلم.
ولما انتشر في العرب ما صنع الله تعالى بجيش الفيل، تهيبوا الحرم وأعظموه وزادت حرمته في النفوس ودانت لقريش بالطاعة وقالوا: أهل الله، قاتل عنهم وكفاهم كيد عدوهم، فزادوهم تشريفا وتعظيما، فصاروا أئمة ديانين، وقادة متبوعين، وصار أصحاب الفيل مثلا في الغابرين. وكان شأن الفيل رادعا لكل باغ ودافعا لكل طاغ. وقد عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن نبوته وبعد هجرته، جماعة شاهدوا الفيل وطير الأبابيل، منهم ، حكيم بن حزام وحاطب بن عبد العزى ، ونوفل بن معاوية ; لأن كل واحد من هؤلاء عاش مائة وعشرين سنة: منها ستين سنة في الجاهلية، وستين سنة في الإسلام، انتهى.
الخامس: ورد في كثير من الأحاديث الصحيحة الإشارة إلى نبأ الفيل: روى البخاري قال أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أظل يوم الحديبية على الثنية التي نهبط به على قريش، بركت ناقته فزجروها فألحت فقالوا: خلأت القصواء -أي: حرنت- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل » في (النهاية): هو فيل ابن الأثير أبرهة الحبشي الذي جاء يقصد خراب الكعبة، فحبس الله الفيل فلم يدخل الحرم، ورد رأسه راجعا من حيث جاء. يعني أن الله حبس ناقة النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى الحديبية، فلم تتقدم ولم تدخل الحرم; لأنه أراد أن يدخل مكة بالمسلمين. وفي الصحيحين أيضا مكة: « إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشاهد الغائب » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح