ولما علم من هذا السياق كما ترى أنه لا بد من الفصل، وأن الفصل لا يكون إلا يوم القيامة، قال شارحا للفصل بين الفريقين في ذلك اليوم مقبلا على خطاب أعلى الخلق إشارة إلى أن هذا لا يفهمه حق الفهم ويوقن به حق الإيقان غيره صلى الله عليه وسلم، أو يكون المراد [ ص: 293 ] كل من يصح أن يخاطب إشارة إلى أن الأمر في الوضوح بحيث لا يختص به أحد دون أحد فقال: ترى أي في ذلك اليوم لا يشك فيه عاقل لما له من الأدلة الفطرية الأولية والعقلية والنقلية الظالمين أي الواضعين الأشياء في غير مواضعها مشفقين أي خائفين أشد الخوف كما هو حال من يحاسبه من هو أعلى منه وهو مقصر. ولما كان الكلام في الذين ظلمهم صفة راسخة لهم، كان من المعلوم أن كل عملهم عليهم، فلذلك عبر بفعل الكسب مجردا فقال: مما كسبوا أي عملوا معتقدين لأنه غاية ما ينفعهم وهو أي جزاءه ووباله الذي هو من جنسه حتى كأنه هو واقع بهم لا محالة من غير أن يزيدهم خوفهم إلا عذابا في غمرات النيران، ذلك هو الخسران المبين، ذلك الذي ينذر به الذين ظلموا والذين آمنوا يصح أن يكون معطوفا على مفعول ترى وأن يكون معطوفا على جميع الجملة فيكون مبتدأ وعملوا الصالحات وهي التي أذن الله فيها غير خائفين مما كسبوا لأنهم مأذون لهم في فعله وهو مغفور لهم ما فرطوا فيه في روضات الجنات أي في الدنيا بما يلذذهم الله به من لذائذ [ ص: 294 ] الأقوال والأعمال والمعارف والأحوال، وفي الآخرة حقيقة بلا زوال لهم ما يشاءون أي دائما أبدا كائن ذلك لكونه في غاية الحفظ والتربية والتنبيه على مثل هذا الحفظ لفت إلى صفة الإحسان، فقال: عند ربهم أي الذي لم يوصلهم إلى هذا الثواب العظيم إلا حسن تربيته لهم، ولطف بره بهم على حسب ما رباهم.
ولما ذكر ما لهم من الجزاء عظمه فقال: ذلك أي الجزاء العظيم الرتبة الجليل القدر هو لا غيره الفضل أي الذي هو أهل لأن يكون فاضلا عن كفاية صاحبه، ولو بالغ في الإنفاق الكبير الذي ملأ جميع جهات الحاجة وصغر عنده كل ما ناله غيرهم من هذا الحطام، فالآية كما ترى من الاحتباك: أثبت الإشفاق أولا دليلا على حذف الأمن ثانيا، والجنات ثانيا دليلا على حذف النيران أولا.