وقد مضى عند قوله تعالى يا أيها المزمل ما في هذا النداء من التكرمة والتلطف .
والمدثر : اسم فاعل من تدثر ، إذا لبس الدثار ، فأصله المتدثر ، أدغمت التاء في الدال لتقاربهما في النطق كما وقع في فعل ( ادعى ) .
والدثار : بكسر الدال : الثوب الذي يلبس فوق الثوب الذي يلبس مباشرا للجسد الذي يسمى شعارا . وفي الحديث " " . الأنصار شعار والناس دثار
فالوصف بـ ( المدثر ) حقيقة ، وقيل هو مجاز على معنى : المدثر بالنبوءة ، كما يقال ارتدى بالمجد وتأزر به على نحو ما قيل في قوله تعالى يا أيها المزمل ، أي : يا أيها اللابس خلعة النبوءة ودثارها .
والقيام المأمور به ليس مستعملا في حقيقته ؛ لأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - لم يكن حين أوحي إليه بهذا نائما ولا مضطجعا ولا هو مأمور بأن ينهض على قدميه وإنما هو مستعمل في الأمر بالمبادرة والإقبال والتهمم بالإنذار مجازا أو كناية .
وشاع هذا الاستعمال في فعل القيام حتى صار معنى الشروع في العمل من معاني مادة القيام مساويا للحقيقة وجاء بهذا المعنى في كثير من كلامهم ، وعد ابن مالك في التسهيل فعل قام من أفعال الشروع . فاستعمال فعل القيام في معنى الشروع قد يكون كناية عن لازم القيام من العزم والتهمم كما في الآية ، قال في الكشاف : قم قيام عزم وتصميم .
وقد يراد المعنى الصريح مع المعنى الكنائي نحو قول مرة بن محكان التميمي من شعراء الحماسة :
[ ص: 295 ]
يا ربة البيت قومي غير صاغرة ضمي إليك رجال الحي والغربا
فإذا اتصلت بفعل القيام الذي هو بهذا المعنى الاستعمال جملة حصل من مجموعهما معنى الشروع في الفعل بجد ، وأنشدوا قول حسان بن المنذر :على ما قام يشتمني لئيم كخنزير تمرغ في رماد
فقام يذود الناس عنها بسيفه وقال ألا لا من سبيل إلى هند
ففعل ( قم ) منزل منزلة اللازم ، وتفريع ( فأنذر ) عليه يبين المراد من الأمر بالقيام .
والمعنى : يا أيها المدثر من الرعب لرؤية ملك الوحي لا تخف وأقبل على الإنذار .
والظاهر : أن هذه الآية أول ما نزل في الأمر بالدعوة ؛ لأن سورة العلق لم تتضمن أمرا بالدعوة . وصدر سورة المزمل تضمن أنه مسبوق بالدعوة لقوله فيه إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم ، وقوله وذرني والمكذبين . وإنما كان تكذيبهم بعد أن أبلغهم أنه رسول من الله إليهم وابتدئ بالأمر بالإنذار ؛ لأن الإنذار يجمع معاني التحذير من فعل شيء لا يليق وعواقبه ، فالإنذار حقيق بالتقديم قبل الأمر بمحامد الفعال ؛ لأن التخلية مقدمة على التحلية ، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، ولأن غالب أحوال الناس يومئذ محتاجة إلى الإنذار والتحذير .
ومفعول ( أنذر ) محذوف لإفادة العموم ، أي : أنذر الناس كلهم وهم يومئذ جميع الناس ما عدا - رضي الله عنها - فإنها آمنت فهي جديرة بالبشارة . خديجة