تفريع على قوله ( يسأل أيان يوم القيامة ) .
فالضمير عائد إلى الإنسان في قوله ( أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ) أي لجهله البعث لم يستعد له .
[ ص: 361 ] وحذف مفعول ( كذب ) ليشمل كل ما كذب به المشركون ، والتقدير : كذب الرسول والقرآن وبالبعث ، وتولى عن الاستجابة لشرائع الإسلام .
ويجوز أن يكون الفاء تفريعا وعطفا على قوله ( إلى ربك يومئذ المساق ) ، أي فقد فارق الحياة وسيق إلى لقاء الله خاليا من العدة لذلك اللقاء .
وفي الكلام على كلا الوجهين حذف يدل عليه السياق تقديره : فقد علم أنه قد خسر وتندم على ما أضاعه من الاستعداد لذلك اليوم .
وقد ورد ذلك في قوله تعالى ( إذا دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي ) .
وفعل ( صدق ) مشتق من التصديق ، أي تصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم - والقرآن وهو المناسب لقوله ( ولكن كذب ) .
والمعنى : فلا آمن بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - . وبعض المفسرين فسر ( صدق ) بمعنى أعطى الصدقة ، وهو غير جار على قياس التصريف إذ حقه أن يقال : تصدق ، على أنه لا يساعد الاستدراك في قوله ( ولكن كذب ) .
وعطف ( ولا صلى ) على نفي التصديق تشويها له بأن حاله مبائن لأحوال أهل الإسلام . والمعنى : فلم يؤمن ولم يسلم .
و ( لا ) نافية دخلت على الفعل الماضي والأكثر في دخولها على الماضي أن يعطف عليها نفي آخر وذلك حين يقصد المتكلم أمرين مثل ما هنا وقول زهير :
فلا هو أخفاها ولم يتقدم
وهذا معنى قول ( لا ) بمعنى لم ولكنه يقرن بغيره يقول العرب : لا عبد الله خارج ولا فلان ، ولا يقولون : مررت برجل لا محسن حتى يقال : ولا مجمل اهـ . فإذا لم يعطف عليه نفي آخر فلا يؤتى بعدها بفعل مضي إلا في إرادة الدعاء نحو لا فض فوك وشذ ما خالف ذلك . وأما قوله تعالى ( الكسائي فلا اقتحم العقبة ) فإنه على تأويل تكرير النفي لأن مفعول الفعل المنفي بحرف ( لا ) وهو العقبة يتضمن عدة أشياء منفية بينها قوله ( وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام ) [ ص: 362 ] إلى قوله ( من الذين آمنوا ) . فلما كان ذلك متعلق الفعل المنفي كان الفعل في تأويل تكرير النفي كأنه قيل : فك رقبة ولا أطعم يتيما ولا أطعم مسكينا ولا آمن .وجملة ( ولكن كذب ) معطوفة على جملة ( فلا صدق ) .
وحرف ( لكن ) المخفف النون بالأصالة أي الذي لم يكن مخفف النون المشددة أخت ( إن ) هو حرف استدراك ، أي نقض لبعض ما تضمنته الجملة التي قبله إما لمجرد توكيد المعنى بذكر نقيضه مثل قوله تعالى ( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم ) ، وإما لبيان إجمال في النفي الذي قبله نحو ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله ) .
وحرف ( لكن ) المخفف لا يعمل إعرابا فهو حرف ابتداء ولذلك أكثر وقوعه بعد واو العطف وجملة ( ولكن كذب وتولى ) أفادت معنيين : أحدهما توكيد قوله ( فلا صدق ) بقوله ( كذب ) ، وثانيهما زيادة بيان معنى ( فلا صدق ) بأنه تولى عمدا لأن عدم التصديق له أحوال ، ونظيره في غير الاستدراك قوله تعالى ( إلا إبليس أبى واستكبر ) .
والتكذيب : تكذيبه بالبعث وبالقرآن وبرسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
والتولي : الإعراض عن دعوته إلى النظر والتدبر في القرآن .
وفاعل ( صدق ) والأفعال المذكورة بعده ضمائر عائدة على الإنسان المتقدم ذكره .
و ( يتمطى ) : يمشي المطيطاء - بضم الميم وفتح الطاء بعدها ياء ثم طاء مقصورة وممدودة - وهي . التبختر
وأصل يتمطى : يتمطط ، أي يتمدد لأن المتبختر يمد خطاه وهي مشية المعجب بنفسه . وهنا انتهى وصف الإنسان المكذب .
والمعنى : أنه أهمل الاستعداد للآخرة ولم يعبأ بدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وذهب إلى أهله مزدهيا بنفسه غير مفكر في مصيره .
قال ابن عطية : قال جمهور المتأولين هذه الآية كلها من قوله ( فلا صدق ولا صلى ) [ ص: 363 ] نزلت في أبي جهل بن هشام ، قال : ثم كادت هذه الآية تصرح به في قوله تعالى ( يتمطى ) فإنها كانت مشية بني مخزوم وكان أبو جهل يكثر منها اهـ . وفيه نظر سيأتي قريبا .
فقوله ( أولى لك ) وعيد ، وهي كلمة توعد تجري مجرى المثل في لزوم هذا اللفظ لكن تلحقه علامات الخطاب والغيبة والتكلم ، والمراد به ما يراد بقولهم : ويل لك ، من دعاء على المجرور باللام بعدها ، أي دعاء بأن يكون المكروه أدنى شيء منه .
( فأولى ) : اسم تفضيل من ولي ، وفاعله ضمير محذوف عائد على مقدر معلوم في العرف ، فيقدره كل سامع بما يدل على المكروه ، قال الأصمعي معناه : قاربك ما تكره ، قالت الخنساء :
هممت بنفسي كل الهموم فأولى لنفسي أولى لهـا
والكاف خطاب للإنسان المصرح به غير مرة في الآيات السابقة بطريق الغيبة إظهارا وإضمارا ، وعدل هنا عن طريق الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات لمواجهة الإنسان بالدعاء لأن المواجهة أوقع في التوبيخ ، وكان مقتضى الظاهر أن يقال : أولى له .
وقوله ( فأولى ) تأكيد " لأولى لك " جيء فيه بفاء التعقيب للدلالة على أنه يدعى عليه بأن يعقبه المكروه ويعقب بدعاء آخر .
[ ص: 364 ] قال قتادة : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من المسجد فاستقبله أبو جهل على باب بني مخزوم فأخذ رسول الله فلبب أبا جهل بثيابه وقال له أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى قال أبو جهل : يتهددني محمد - أي يستعمل كلمة الدعاء في إرادة التهديد - فوالله إني لأعز أهل الوادي . وأنزل الله تعالى ( أولى لك فأولى ) كما قال لأبي جهل .
وقوله ( ثم أولى لك فأولى ) تأكيد للدعاء عليه ولتأكيده السابق .
وجيء بحرف ( ثم ) لعطف الجملة دلالة على أن هذا التأكيد ارتقاء في الوعيد ، وتهديد بأشد مما أفاده التهديد وتأكيده كقوله تعالى ( كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون ) .
وأحسب أن المراد : كل إنسان كافر كما يقتضيه أول الكلام من قوله ( أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ) إلى قوله ( بل الإنسان على نفسه بصيرة ) ، وما أبو جهل إلا من أولهم ، وأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - توعده باللفظ الذي أنزله الله تهديدا لأمثاله .
وكلمات المتقدمين في كون الشيء سبب نزول شيء من القرآن كلمات فيها تسامح .