وأما قوله : ( وقال إنني من المسلمين ) فهو أن ينضم إلى عمل القلب وعمل الجوارح الإقرار باللسان ، فيكون هذا الرجل موصوفا بخصال أربعة : أحدها : الإقرار باللسان ، والثاني : الأعمال الصالحة بالجوارح . والثالث : الاعتقاد الحق بالقلب . والرابع : الاشتغال بإقامة الحجة على دين الله ، ولا شك أن الموصوف بهذه الخصال الأربعة أشرف الناس وأفضلهم ، وكمال الدرجة في هذه المراتب الأربعة ليس إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم .
ثم قال تعالى : ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ) واعلم أنا بينا أن الكلام من أول السورة ابتدئ من أن الله حكى عنهم أنهم قالوا : ( قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ) [ فصلت : 5 ] فأظهروا من أنفسهم الإصرار الشديد على أديانهم القديمة ، وعدم التأثر بدلائل محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم إنه تعالى أطنب في الجواب عنه وذكر الوجوه الكثيرة ، وأردفها بالوعد والوعيد ، ثم حكى عنهم شبهة أخرى ، وهي قولهم : ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ) [ فصلت : 26 ] وأجاب عنها أيضا بالوجوه الكثيرة ، ثم إنه تعالى بعد الإطناب في الجواب عن تلك الشبهات رغب محمدا صلى الله عليه وسلم في أن لا يترك الدعوة إلى الله .
فابتدأ أولا بأن قال : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ) فلهم الثواب العظيم ثم ترقى من تلك الدرجة إلى درجة أخرى وهي أن الدعوة إلى الله من أعظم الدرجات ، فصار [ ص: 110 ] الكلام من أول السورة إلى هذا الموضع واقعا على أحسن وجوه الترتيب ، ثم كأن سائلا سأل فقال إن الدعوة إلى الله وإن كانت طاعة عظيمة ، إلا أن الصبر على سفاهة هؤلاء الكفار شديد لا طاقة لنا به ، فعند هذا ذكر الله ما يصلح لأن يكون دافعا لهذا الإشكال فقال : ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ) والمراد بالحسنة ، وترك الانتقام ، وترك الالتفات إليهم ، والمراد بالسيئة ما أظهروه من الجلافة في قولهم : ( دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الدين الحق ، والصبر على جهالة الكفار قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ) وما ذكروه في قولهم : ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ) فكأنه قال : يا محمد فعلك حسنة وفعلهم سيئة ، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ، بمعنى أنك إذا أتيت بهذه الحسنة تكون مستوجبا للتعظيم في الدنيا والثواب في الآخرة ، وهم بالضد من ذلك ، فلا ينبغي أن يكون إقدامهم على تلك السيئة مانعا لك من الاشتغال بهذه الحسنة .
ثم قال : ( ادفع بالتي هي أحسن ) يعني ادفع سفاهتهم وجهالتهم بالطريق الذي هو أحسن الطرق ، فإنك إذا صبرت على سوء أخلاقهم مرة بعد أخرى ، ولم تقابل سفاهتهم بالغضب ولا إضرارهم بالإيذاء والإيحاش استحيوا من تلك الأخلاق المذمومة وتركوا تلك الأفعال القبيحة .
ثم قال : ( فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) يعني إذا قابلت إساءتهم بالإحسان ، وأفعالهم القبيحة بالأفعال الحسنة تركوا أفعالهم القبيحة وانقلبوا من العداوة إلى المحبة ومن البغضة إلى المودة ، ولما أرشد الله تعالى إلى هذا الطريق النافع في الدين والدنيا والآخرة عظمه ، فقال : ( وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) قال الزجاج : أي وما يلقى هذه الفعلة إلا . الذين صبروا على تحمل المكاره وتجرع الشدائد وكظم الغيظ وترك الانتقام
ثم قال : ( وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) من الفضائل النفسانية والدرجة العالية في القوة الروحانية ، فإن الاشتغال بالانتقام والدفع لا يحصل إلا بعد تأثر النفس ، وتأثر النفس من الواردات الخارجية لا يحصل إلا عند ضعف النفس ، فأما إذا كانت النفس قوية الجوهر لم تتأثر من الواردات الخارجية ، وإذا لم تتأثر منها لم تضعف ولم تتأذ ولم تشتغل بالانتقام ، فثبت أن هذه السيرة التي شرحناها لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم من قوة النفس وصفاء الجوهر وطهارة الذات .
ويحتمل أن يكون المراد : وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم من ثواب الآخرة ، فعلى هذا الوجه قوله : ( وما يلقاها إلا الذين صبروا ) مدح بفعل الصبر ، وقوله : ( وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) وعد بأعظم الحظ من الثواب .
ولما ذكر هذا الطريق الكامل في دفع الغضب والانتقام ، وفي ترك الخصومة ذكر عقيبه طريقا آخر عظيم النفع أيضا في هذا الباب ، فقال : ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ) وهذه الآية مع ما فيها من الفوائد الجليلة مفسرة في آخر سورة الأعراف على الاستقصاء ، قال صاحب " الكشاف " : النزغ والنسغ بمعنى واحد وهو شبه النخس ، ، كأنه ينخسه ببعثه على ما لا ينبغي وجعل النزغ نازغا ، كما قيل : جد جده ، أو أريد ( والشيطان ينزغ الإنسان وإما ينزغنك ) نازغ وصفا للشيطان بالمصدر .
وبالجملة فالمقصود من الآية ، وامض على شأنك ولا تطعه ، والله أعلم . وإن صرفك الشيطان عما شرعت من الدفع بالتي هي أحسن ، فاستعذ بالله من شره