عطف على ( ولا يحسبن الذين كفروا ) ، لأن الظاهر أن هذا أنزل في شأن ، فإنهم كانوا يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، كما حكى الله [ ص: 181 ] عنهم في سورة النساء بقوله أحوال المنافقين الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل وكانوا يقولون : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ، وغير ذلك ، ولا يجوز بحال أن يكون نازلا في شأن بعض المسلمين لأن المسلمين يومئذ مبرءون من هذا الفعل ومن هذا الحسبان ، ولذلك قال معظم المفسرين : إن الآية نزلت في ، أي فيمن منعوا الزكاة ، وهل يمنعها يومئذ إلا منافق . ولعل مناسبة ذكر نزول هذه الآية هنا أن بعضهم منع النفقة في سبيل الله في غزوة منع الزكاة أحد . ومعنى حسبانه خيرا أنهم حسبوا أن قد استبقوا مالهم وتنصلوا عن دفعه بمعاذير قبلت منهم .
أما شمولها لمنع الزكاة ، فإن لم يكن بعموم صلة الموصول إن كان الموصول للعهد لا للجنس ، فبدلالة فحوى الخطاب .
وقرأ الجمهور : ولا يحسبن الذين يبخلون بياء الغيبة ، وقرأه حمزة بتاء الخطاب كما تقدم في نظيره . وقرأ الجمهور : تحسبن - بكسر السين ، وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم بفتح السين .
وقوله هو خيرا لهم قال هو ضمير فصل ، وقد يبنى كلامه على أن ضمير الفصل لا يختص بالوقوع مع الأفعال التي تطلب اسما وخبرا ، ونقل الزمخشري الطيبي عن أنه قال : زعم الزجاج أنه إنما يكون فصلا مع المبتدأ والخبر ، يعني فلا يصح أن يكون هنا ضمير فصل ولذلك حكى سيبويه أبو البقاء فيه وجهين : أحدهما أن يكون هو ضميرا واقعا موقع المفعول الأول على أنه من إنابة ضمير الرفع عن ضمير النصب ، ولعل الذي حسنه أن المعاد غير مذكور فلا يهتدى إليه بضمير النصب ، بخلاف ضمير الرفع لأنه كالعمدة في الكلام ، وعلى كل تقدير فالضمير عائد على البخل المستفاد من يبخلون ، مثل اعدلوا هو أقرب للتقوى ، ومثل قوله :
إذا نهي السفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف
ثم إذا كان ضمير فصل فأحد مفعولي حسب محذوف اختصارا لدلالة [ ص: 182 ] ضمير الفصل عليه ، فعلى قراءة الفوقية فالمحذوف مضاف حل المضاف إليه محله ، أي لا تحسبن الذين يبخلون خيرا ، وعلى قراءة التحتية : ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم خيرا .والبخل - بضم الباء وسكون الخاء - ويقال : بخل بفتحهما ، وفعله في لغة أهل الحجاز مضموم العين في الماضي والمضارع . وبقية العرب تجعله بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع ، وبلغة غير أهل الحجاز جاء القرآن لخفة الكسرة والفتحة ولذا لم يقرأ إلا بها . وهو ضد الجود ، فهو الانقباض على إعطاء المال بدون عوض ، هذا حقيقته ، ولا يطلق على منع صاحب شيء غير مال أن ينتفع غيره بشيئه بدون مضرة عليه إلا مجازا ، وقد ورد في أثر عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - ويقولون : بخلت العين بالدموع ، ويرادف البخل الشح ، كما يرادف الجود السخاء والسماح . البخيل الذي أذكر عنده فلا يصلي علي
وقوله بل هو شر لهم تأكيد لنفي كونه خيرا ، كقول امرئ القيس :
وتعطو برخص غير شئن . . .
وهذا كثير في كلام العرب ، على أن في هذا المقام إفادة نفي توهم الواسطة بين الخير والشر .وجملة ( ( سيطوقون ) ) واقعة موقع العلة لقوله بل هو شر لهم . " ويطوقون " يحتمل أنه مشتق من الطاقة ، وهي تحمل ما فوق القدرة أي سيحملون ما بخلوا به ، أي يكون عليهم وزرا يوم القيامة ، والأظهر أنه مشتق من الطوق ، وهو ما يلبس تحت الرقبة فوق الصدر ، أي تجعل أموالهم أطواقا يوم القيامة فيعذبون بحملها ، وهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم - : من اغتصب شبرا من أرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة . والعرب يقولون في أمثالهم : تقلدها ( أي الفعلة الذميمة ) طوق الحمامة . وعلى كلا الاحتمالين فالمعنى أنهم يشهرون بهذه المذمة بين أهل المحشر ، ويلزمون عقاب ذلك . وقوله ولله ميراث السماوات والأرض تذييل لموعظة الباخلين وغيرهم : بأن المال مال الله ، وما من بخيل إلا سيذهب ويترك ماله ، والمتصرف [ ص: 183 ] في ذلك كله هو الله ، فهو يرث السماوات والأرض ، أي يستمر ملكه عليهما بعد زوال البشر كلهم المنتفعين ببعض ذلك ، وهو يملك ما في ضمنها تبعا لهما ، وهو عليم بما يعمل الناس من بخل وصدقة ، فالآية موعظة ووعيد ووعد لأن المقصود لازم قوله ( خبير ) .