فأما الذي عجزت به إعجاز القرآن العرب عن الإتيان بمثله، فقد اختلف العلماء فيه على ثمانية أوجه:
أحدها: أن وجه إعجازه، هو الإعجاز والبلاغة، حتى يشتمل يسير لفظه على كثير المعاني، مثل قوله تعالى: ولكم في القصاص حياة فجمع في كلمتين، عدد حروفهما عشرة أحرف، معاني كلام كثير.
والثاني: أن وجه إعجازه، هو البيان والفصاحة، التي عجز عنها الفصحاء، وقصر فيها البلغاء، كالذي حكاه أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ: أبو عبيد، فاصدع بما تؤمر فسجد، وقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام، وسمع آخر رجلا يقرأ: فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا فقال: أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام. [ ص: 31 ]
وحكى قال: رأيت بالبادية جارية خماسية أو سداسية وهي تقول: الأصمعي
أستغفر الله لذنبي كله قتلت إنسانا لغير حله مثل غزال ناعم في دله
فانتصف الليل ولم أصله
فقلت لها: قاتلك الله ما أفصحك، فقالت: أتعد فصاحة بعد قول الله عز وجل: وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فجمع في آية واحدة، بين أمرين، ونهيين، وخبرين، وإنشاءين.
والثالث: أن وجه إعجازه، هو الوصف الذي تنقضي به العادة، حتى صار خارجا عن جنس كلام العرب، من النظم، والنثر، والخطب، والشعر، والرجز، والسجع، والمزدوج، فلا يدخل في شيء منها ولا يختلط بها، مع كون ألفاظه وحروفه في كلامهم، ومستعملة في نظمهم ونثرهم.
حكي أن طلب أن يعارض القرآن، فنظم كلاما، وجعله مفصلا، وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرأ في مكتب: ابن المقفع وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين فرجع، ومحا ما عمل، وقال: أشهد أن هذا لا يعارض أبدا، وما هو من كلام البشر، وكان فصيح أهل عصره.
والرابع: أن وجه إعجازه، هو أن قارئه لا يكل، وسامعه لا يمل، وإكثار [ ص: 32 ]
تلاوته تزيده حلاوة في النفوس، وميلا إلى القلوب، وغيره من الكلام، وإن كان مستحسن النظم مستعذب النثر، يمل إذا أعيد ويستثقل إذا ردد.
والخامس: أن وجه إعجازه، هو ما فيه من الإخبار بما كان مما علموه، أو لم يعلموه، فإذا سألوا عنه، عرفوا صحته، وتحققوا صدقه، كالذي حكاه من قصة أهل الكهف، وشأن موسى والخضر، وحال ذي القرنين، وقصص الأنبياء مع أممها، والقرون الماضية في دهرها.
والسادس: أن وجه إعجازه، هو ما فيه من علم الغيب، والإخبار بما يكون، فيوجد صدقه وصحته، مثل قوله لليهود: قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ثم قال: ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم فما تمناه واحد منهم، ومثل قوله تعالى لقريش: فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فقطع بأنهم لا يفعلون، فلم يفعلوا.
والسابع: أن وجه إعجازه، هو كونه جامعا لعلوم لم تكن فيهم آلاتها، ولا تتعاطى العرب الكلام فيها، ولا يحيط بها من علماء الأمم واحد، ولا يشتمل عليها كتاب وقال تعالى: ما فرطنا في الكتاب من شيء وقال: تبيانا لكل شيء وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم هو الحق ليس بالهزل من طلب الهدى من غيره ضل " وهذا لا يكون إلا عند الله الذي أحاط بكل شيء علما. [ ص: 33 ]
والثامن: أن إعجازه هو الصرفة، وهو أن الله تعالى صرف هممهم عن معارضته مع تحديهم أن يأتوا بسورة من مثله، فلم تحركهم أنفة التحدي، فصبروا على نقص العجز، فلم يعارضوه، وهم فصحاء العرب مع توفر دواعيهم على إبطاله، وبذل نفوسهم في قتاله، فصار بذلك معجزا لخروجه العادة كخروج سائر المعجزات عنها.
واختلف من قال بهذه الصرفة على وجهين:
أحدهما: أنهم صرفوا عن القدرة عليه، ولو تعرضوا لعجزوا عنه.
والثاني: أنهم صرفوا عن التعرض له، مع كونه في قدرتهم ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه.
فهذه ثمانية أوجه، يصح أن يكون كل واحد منها إعجازا، فإذا جمعها القرآن وليس اختصاص أحدها بأن يكون معجزا بأولى من غيره، صار إعجازه من الأوجه الثمانية، فكان أبلغ في الإعجاز، وأبدع في الفصاحة والإيجاز.