[ ص: 1847 ] ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنـزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما
* * *
في الآيات السابقة ذكر سبحانه أحوال المنافقين والذين يختانون أنفسهم، وأشار إلى الذين يرتكبون الشر، ويرمون به غيرهم، وما يجب أن يكون عليه القاضي المنصف الذي يرد الحقوق إلى أصحابها، وتكون عنده المقاسم الحقيقية للحق والباطل، وكل ذلك في الأحكام الدنيوية. وفي هذا النص يبين الله سبحانه فذكر ثلاث مراتب: المرتبة الأولى مرتبة التوابين، والثانية مرتبة الذين لا تتعدى آثامهم أنفسهم أو لا يرمون بها غيرهم، والثالثة، وهي التي تنال أشد الجزاء الأخروي بعد الخزي الدنيوي، هي التي ترتكب الشر وترمي به غيرها. وقد بين الله سبحانه الرتبة الأولى بقوله تعالى: مراتب العصاة أمام الله تعالى
ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما السوء هو الأمر الذي يحدث غما وألما، سواء أكان لفاعله، أم كان لغير فاعله، ولكن بمقابلته بقوله تعالى: [ ص: 1848 ] أو يظلم نفسه لا بد من أن تفسر الكلمتان بمعنيين متغايرين، وقد تكلم في ذلك المفسرون، وأحسن ما رأينا هو ما قاله من أن السوء هو ما يكون فيه أذى للغير، كالقذف والشتم والسب، ونحو ذلك، وأما ما يكون فيه ظلم للنفس، فهو ما لا يكون فيه أذى مباشر للغير ابتداء، كالفاحشة، وشرب الخمر، وترك الصلاة والصوم والحج، وغير ذلك من المعاصي التي لا تتجاوز غير صاحبها مباشرة وابتداء، وإن كانت في مآلها تتعدى إذا تفشت الأمة وكثرت فيها. الزمخشري
ولا بد أن نذكر بإجمال عبارات في بعض الإشارات البيانية القرآنية: الأولى: عن التعبير بقوله تعالى: ومن يعمل سوءا فإن هذا التعبير يشير إلى أن نفسه لم تركس في الشر، ولم يستغرقها، بل إنه عمل عارض، ولذا كان التعبير (يعمل) ، وهذا في مقابل قوله في الطبقة الثانية: (يكسب) ، فإن الكسب كما تبين يشير إلى تدنس النفس، وارتكاسها في الشر، أما العمل ففي ظاهر الأمر أنه لا يتجاوز الجوارح; ولذا كانت التوبة قريبة، وكان الاستغفار غير بعيد.
الثانية: أن التعبير عن المعاصي الشخصية التي لا تتعدى صاحبها ابتداء بظلم النفس، فيه معان واضحة، فهي تفيد أن وفيه تنبيه إلى أن كل ما نهى الله عنه فلمصلحة العبد، فإن تجاوز حدود ما نهى الله عنه فقد وقع في ضرر مؤكد. المعاصي، سواء أكانت إيجابية كشرب الخمر، أم سلبية كترك الصلاة والصوم، مغبة وقوعها تكون على العبد ابتداء، ثم تكون على غيره من بعد.
وفي الحق أن ومخالفة أمر الله فيه ظلم للنفس وإساءة للمجتمع، بيد أن بعضه يكون أثره مباشرا، إما على الغير كالقتل والاعتداء بكل أنواعه، أو يكون أثره المباشر على شخص المرتكب، ثم يتعدى إلى المجتمع من وراء ذلك، حتى أن من ظلم النفس عده الله تعالى اعتداء على حقه تعالى، كالزنا وشرب الخمر، وكونه ظلما للنفس لا يمنع أنه اعتداء على حق الله تعالى وذلك للمآل والآثار، لا بالمباشرة. [ ص: 1849 ] الثالثة: أن التعبير بـ"ثم" في قوله تعالى: كل ما نهى الله عنه، وما أمر به فهو لمصلحة الجماعة، ثم يستغفر الله - للإشارة إلى تفاوت ما بين المعصية والاستغفار، فالتراخي الذي دلت عليه كلمة "ثم" تفاوت معنوي، وليس بتراخ زمني؛ لأن من يعمل السوء أو يظلم نفسه من غير أن يحيط بالنفس، توبته قريبة، كما قال تعالى: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما [النساء].
والاستغفار هو طلب المغفرة، وذلك يقتضي الإقلاع عن الذنب، والندم على ما كان منه، والالتجاء إلى الله تعالى فالاستغفار هو التوبة النصوح، ومن مقتضيات هذه التوبة أن يرد الحقوق إلى أصحابها، ويطلب العفو ممن أساء إليه; لأن حقوق العباد لا تتحقق فيها التوبة إلا إذا ردت إلى أصحابها، أو كان العفو منهم.
وقوله تعالى: يجد الله غفورا رحيما يفيد استجابة طلب الغفران إن تحققت شرائطه، ولم يصب النفس بدنس، فالمعنى إن استغفر وتاب وأناب استحق المغفرة، لأنه يعلم وصف الله تعالى لذاته العلية بأنه المتصف بصفة الغفران والرحمة، وكان ثم ذكر سبحانه المرتبة الثانية في المعاصي بقوله: من رحمته أن يقبل توبة التائب، ويعاقب العاصي المصر.
* * *