ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا
ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجيبا له من حال الذين يخالفون ما مر من الأمر المحتوم ولا يطيعون الله ولا رسوله ، ووصفهم بادعاء الإيمان بالقرآن وبما أنزل من قبله - أعني التوراة - لتأكيد التعجيب وتشديد التوبيخ والاستقباح ببيان كمال المباينة بين دعواهم وبين ما صدر عنهم، وقرئ الفعلان على البناء للفاعل وقوله عز وجل: يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت استئناف سيق لبيان محل التعجيب مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل: ماذا يفعلون؟ فقيل: يريدون إلخ. روي عن رضي الله عنهما أن منافقا خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاه المنافق إلى ابن عباس كعب بن الأشرف ثم إنهما احتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي فلم يرض به المنافق فدعاه إلى رضي الله عنه فقال اليهودي: قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرض بقضائه فقال عمر بن الخطاب للمنافق: أهكذا؟ قال: نعم، فقال عمر مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى برد ثم قال هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله فنزلت فهبط عمر: جبريل عليه الصلاة والسلام وقال: إن فرق بين الحق والباطل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت عمر فالطاغوت الفاروق، كعب بن الأشرف سمي به لإفراطه في الطغيان وعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو على التشبيه بالشيطان والتسمية باسمه أو جعل اختيار التحاكم إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم على التحاكم إليه تحاكما إلى الشيطان. وقال المراد بالطاغوت: كهنة اليهود وسحرتهم. وعن الضحاك: أن المنافق دعا خصمه إلى كاهن في الشعبي جهينة فتحاكما إليه. وعن أن الحادثة وقعت في قتيل بين السدي بني قريظة والنضير فتحاكم المسلمون من الفريقين إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبى المنافقون منهما إلا التحاكم إلى أبي بردة الكاهن الأسلمي فتحاكموا إليه فيكون الاقتصار حينئذ [ ص: 195 ] في معرض التعجيب والاستقباح على ذكر إرادة التحاكم دون نفسه مع وقوعه أيضا للتنبيه على أن إرادته مما يقضي منه العجب ولا ينبغي أن يدخل تحت الوقوع فما ظنك بنفسه وهذا أنسب بوصف المنافقين بادعاء الإيمان بالتوراة فإنه كما يقتضي كونهم من منافقي اليهود يقتضي كون ما صدر عنهم من التحاكم ظاهر المنافاة لادعاء الإيمان بالتوراة وليس التحاكم إلى كعب بن الأشرف بهذه المثابة من الظهور وأيضا فالمتبادر من قوله تعالى: وقد أمروا أن يكفروا به كونهم مأمورين بكفره في الكتابين وما ذاك إلا الشيطان وأولياؤه المشهورون بولايته كالكهنة ونظائرهم لا من عداهم ممن لم يشتهر بذلك، وقرئ أن يكفروا بها على أن الطاغوت جمع كما في قوله تعالى: أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم والجملة حال من ضمير "يريدون" مفيدة لتأكيد التعجيب وتشديد الاستقباح كالوصف السابق. وقوله عز وجل: ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا عطف على "يريدون" داخل في حكم التعجيب، فإن اتباعهم لمن يريد إضلالهم وإعراضهم عمن يريد هدايتهم أعجب من كل عجيب ، و"ضلالا" إما مصدر مؤكد للفعل المذكور بحذف الزوائد كما في قوله تعالى: وأنبتها نباتا حسنا أي: إضلالا بعيدا وإما مصدر مؤكد لفعله المدلول عليه بالفعل المذكور أى: فيضلوا إضلالا، وأيا ما كان; فوصفه بالبعد الذي هو نعت موصوفه للمبالغة وقوله تعالى:*