القاضي الإمام ، العلامة المفتي ، المنشئ البليغ ، الوزير عماد الدين ، أبو عبد الله محمد بن محمد بن حامد بن محمد بن عبد الله بن علي بن محمود بن هبة الله بن أله الأصبهاني الكاتب ، ويعرف بابن أخي العزيز .
ولد سنة تسع عشرة وخمسمائة بأصبهان .
وقدم بغداد ، فنزل بالنظامية ، وبرع في الفقه على أبي منصور سعيد بن الرزاز . وأتقن العربية والخلاف ، وساد في علم الترسل ، وصنف التصانيف ، واشتهر ذكره .
وسمع من : أبي منصور محمد بن عبد الملك بن خيرون ، وأبي الحسن بن عبد السلام ، وعلي بن عبد السيد بن الصباغ ، والمبارك بن [ ص: 346 ] علي السمذي ، وأبي بكر بن الأشقر .
وأجاز له الفراوي من نيسابور ، وابن الحصين من بغداد ، ورجع إلى أصبهان مكبا على العلم ، وتنقلت به الأحوال .
حدث عنه : يوسف بن خليل ، والخطير فتوح بن نوح ، والعز عبد العزيز بن عثمان الإربلي ، والشهاب القوصي ، وجماعة .
وأجاز مروياته لشيخنا أحمد بن أبي الخير .
وأله : فارسي معناه عقاب ، وهو بفتح أوله وضم ثانيه وسكون الهاء .
اتصل بابن هبيرة ، ثم تحول إلى دمشق سنة اثنتين وستين ، واتصل بالدولة ، وخدم بالإنشاء الملك نور الدين . وكان ينشئ بالفارسي أيضا ، فنفذه نور الدين رسولا إلى المستنجد ، وولاه تدريس العمادية سنة سبع وستين ، ثم رتبه في إشراف الديوان . فلما توفي نور الدين ، أهمل ، فقصد الموصل ، ومرض ، ثم عاد إلى حلب ، وصلاح الدين محاصر لها سنة سبعين ، فمدحه ، ولزم ركابه ، فاستكتبه ، وقربه ، فكان القاضي الفاضل ينقطع بمصر لمهمات ، فيسد العماد في الخدمة مسده .
صنف كتاب " خريدة القصر وجريدة العصر " ذيلا على " زينة الدهر " للحظيري ، وهي ذيل على " دمية القصر وعصرة أهل العصر " للباخرزي التي ذيل بها على " يتيمة الدهر " للثعالبي التي هي ذيل على " البارع " لهارون بن علي المنجم ، فالخريدة مشتمل على شعراء زمانه من بعد الخمسمائة وهو عشر مجلدات .
[ ص: 347 ] وله " البرق الشامي " سبع مجلدات ، و " الفتح القسي في الفتح القدسي " مجلدان ، وكتاب " السيل والذيل " مجلدان ، و " نصرة الفترة " في أخبار بني سلجوق ، وديوان رسائل كبير ، وديوانه في أربع مجلدات .
وكان بينه وبين الفاضل مخاطبات ومكاتبات . قال مرة للفاضل مما يقرأ منكوسا : سر فلا كبا بك الفرس ، فأجابه بمثله فقال : دام علا العماد .
قال ابن خلكان ولم يزل العماد على مكانته إلى أن توفي صلاح الدين ، فاختلت أحواله ، فلزم بيته ، وأقبل على تصانيفه .
قال الموفق عبد اللطيف : حكى لي العماد ، قال : طلبني كمال الدين لنيابته في الإنشاء ، فقلت : لا أعرف الكتابة ، قال : إنما أريد منك أن تثبت ما يجري ، فتخبرني به ، فصرت أرى الكتب تكتب إلى الأطراف ، فقلت : لو طلب مني أن أكتب مثل هذا ، ما كنت أصنع ؟ فأخذت أحفظ الكتب ، وأحاكيها ، وأروض نفسي ، فكتبت إلى بغداد كتبا ، ولم أطلع عليها أحدا ، فقال كمال الدين يوما : ليتنا وجدنا من يكتب إلى بغداد ، ويريحنا ، فقلت : أنا ، فكتبت ، وعرضت عليه ، فأعجبه ، واستكتبني ، فلما توجه أسد الدين إلى مصر المرة الثالثة ، صحبته .
قال الموفق : وكان فقهه على طريقة أسعد الميهني . ويوم تدريسه تسابق الفقهاء لسماع كلامه ، وحسن نكته ، وكان بطيء الكتابة ، لكنه دائم العمل ، وله توسع في اللغة لا النحو . توفي بعد ما قاسى مهانات ابن شكر ، [ ص: 348 ] وكان فريد عصره نظما ونثرا ، وقد رأيته في مجلس ابن شكر مزحوما في أخريات الناس .
وقال زكي الدين المنذري كان العماد جامعا للفضائل : الفقه ، والأدب ، والشعر الجيد ، وله اليد البيضاء في النثر والنظم . صنف تصانيف مفيدة ، وللسلطان الملك الناصر معه من الإغضاء والتجاوز والبسط وحسن الخلق ما يتعجب من وقوع مثله . توفي في أول رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة ودفن بمقابر الصوفية -رحمه الله .
أنبأني محفوظ بن البزوري في " تاريخه " ، قال : العماد إمام البلغاء ، شمس الشعراء ، وقطب رحى الفضلاء ، أشرقت أشعة فضائله وأنارت ، وأنجدت الركبان بأخباره وأغارت ، هو في الفصاحة قس دهره ، وفي البلاغة سحبان عصره ، فاق الأنام طرا ، نظما ونثرا .
أخبرنا أحمد بن سلامة في كتابه ، عن محمد بن محمد الكاتب ، أخبرنا علي بن عبد السيد ، أخبرنا أبو محمد الصريفيني ، أخبرنا ابن حبابة ، حدثنا البغوي ، حدثنا علي بن الجعد ، أخبرنا شعبة ، عن أبي ذبيان -هو خليفة بن كعب - قال : سمعت ابن الزبير يقول : عمر يقول : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : من لبسه في الدنيا ، لم يلبسه في الآخرة . لا تلبسوا نساءكم الحرير فإني سمعت
[ ص: 349 ] ومن نظمه فيما أجاز لنا ابن سلامة عنه :
يا مالكا رق قلبي أراك مالك رقه ها مهجتي لك خذها
فإنها مستحقه فدتك نفسي برفق
فما أطيق المشقه ويا رشيقا أتاني
من سهم عينيه رشقه لصارم الجفن منه
في مهجتي ألف مشقه وخصره مثل معنى
بلاغي فيه دقه
كالنجم حين هدا كالدهر حين عدا كالصبح حين بدا كالعضب حين برى
في الحكم طود علا في الحلم بحر نهى في الجود غيث ندا في البأس ليث شرا
وللناس بالملك الناصر الصلاح صلاح ونصر كبير
هو الشمس أفلاكه في البلاد ومطلعه سرجه والسرير
إذا ما سطا أو حبا واحتبى فما الليث ؟ من حاتم ؟ ما ثبير؟
أما الغبار فإنه مما أثارته السنابك
فالجو منه مظلم لكن تباشير السنا بك
[ ص: 350 ] يا دهر لي عبد الرحي م فلست أخشى مس نابك