فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستقامة وهو عليها إنما هو أمر بالدوام والثبات، وهذا كما تأمر إنسانا بالمشي والأكل ونحوه وهو متلبس به. والخطاب بهذه الآية للنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الذين تابوا من الكفر، ولسائر أمته بالمعنى، وروي أن بعض العلماء رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال له: يا رسول الله بلغنا عنك أنك قلت: "شيبتني هود [ ص: 27 ] وأخواتها"، فما الذي شيبك من هود؟ قال له: قوله تعالى: فاستقم كما أمرت .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والتأويل المشهور في قوله صلى الله عليه وسلم: هود وأخواتها" أنها إشارة إلى ما فيها مما حل بالأمم السابقة، فكان حذره على هذه الأمة مثل ذلك شيبه عليه الصلاة والسلام. "شيبتني
وقوله: أمرت مخاطبة تعظيم، وقوله: "ومن" معطوف على الضمير في قوله: فاستقم ، وحسن ذلك دون أن يؤكد لطول الكلام بقوله: كما أمرت . و ولا تطغوا معناه: ولا تتجاوزوا حدود الله تعالى، و الطغيان: تجاوز الحد، ومنه قوله: طغى الماء ، وقوله في فرعون: "إنه طغى" ، وقيل في هذه: معناه: ولا تطغينكم النعم، وهذا كالأول. وقرأ الجمهور: "تعملون" بتاء، وقرأ ، الحسن : "يعملون" بياء من تحت. والأعمش
وقرأ الجمهور: "ولا تركنوا" بفتح الكاف، وقرأ ، طلحة بن مصرف ، وقتادة والأشهب العقيلي، ، فيما روى عنه وأبو عمرو هارون - بضمها، وهو لغة، يقال: ركن يركن وركن يركن، ومعناه السكون إلى الشيء والرضا به، قال : [ ص: 28 ] الركون: الرضا، قال أبو العالية : الركون: الإذعان. ابن زيد
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فالركون يقع على قليل هذا المعنى وكثيره، والنهي هنا يترتب من معنى الركون على الميل إليهم بالشرك معهم إلى أقل الرتب من ترك التغيير عليهم مع القدرة، و " الذين ظلموا" هنا هم الكفار، وهو النص للمتأولين، ويدخل بالمعنى أهل المعاصي.
وقرأ الجمهور: "فتمسكم" ، وقرأ ، يحيى بن وثاب ، وعلقمة ، وابن مصرف، والأعمش -فيما روي عنه-: "فتمسكم" بكسر التاء، وهي لغة في كسر العلامات الثلاث دون الياء التي للغائب، وقد جاء في الياء "ييجل" و"ييبى"، وعللت هذه بأن الياء التي وليت الأولى ردتها إلى الكسر. وحمزة
وقوله تعالى: " أقم الصلاة " الآية. لم يختلف أحد في أن الصلاة في هذه الآية يراد بها الصلوات المفروضة، واختلف في "طرفي النهار وزلف الليل" -فقيل: الطرف الأول: الصبح، والثاني: الظهر والعصر، والزلف: المغرب والعشاء، قاله ، مجاهد وروي ومحمد بن كعب القرظي. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المغرب والعشاء: "هما زلفتا الليل". وقيل: الطرف الأول: الصبح، والثاني: العصر، قاله ، الحسن ، وقتادة . والزلف: المغرب والعشاء، وليست الظهر في هذه الآية -على هذا القول- بل هي في غيرها. وقيل: الطرفان: الصبح والمغرب، قاله والضحاك ، ابن عباس أيضا، والزلف: العشاء، وليست الظهر والعصر في الآية. وقيل: الطرفان: الظهر والعصر، والزلف: المغرب والعشاء والصبح. والحسن
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
كأن هذا القائل راعى جهر القراءة، والأول أحسن هذه الأقوال عندي، ورجح أن الطرفين: الصبح والمغرب، وأنه الظاهر إلا أن عموم الصلوات الخمس بالآية أولى. الطبري
وقرأ الجمهور: "زلفا" بفتح اللام، وقرأ ، طلحة بن مصرف وابن محيصن ، [ ص: 29 ] وعيسى، ، وابن إسحاق : "زلفا" بضم اللام كأنه اسم مفرد، وقرأ "زلفا" بسكون اللام وأبو جعفر ، وقرأ أيضا: "زلفى" على وزن "فعلى"، وهي قراءة مجاهد ابن محيصن ، والزلف: الساعات القريب بعضها من بعض ومنه قول العجاج:
ناج طواه الأين مما وجفا
طي الليالي زلفا فزلفا
سماوة الهلال حتى احقوقفا
وقوله تعالى: إن الحسنات يذهبن السيئات ذهب جمهور المتأولين من صحابة وتابعين إلى أن "الحسنات" يراد بها الصلوات الخمس، وإلى هذه الآية ذهب رضي الله عنه عند وضوئه على المقاعد، وهو تأويل عثمان وقال مالك، : الحسنات: قول الرجل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. مجاهد
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا كله إنما هو على جهة المثال في الحسنات، ومن أجل أن والذي يظهر أن لفظ الآية لفظ عام في الحسنات خاص في السيئات بقوله عليه الصلاة والسلام: الصلوات الخمس هي أعظم الأعمال. وروي "ما اجتنبت الكبائر" . أن هذه الآية نزلت في رجل من الأنصار ، قيل: هو أبو اليسر بن عمرو، وقيل: اسمه عباد، خلا بامرأة فقبلها [ ص: 30 ] وتلذذ بها فيما دون الجماع، ثم جاء إلى رضي الله عنه فشكا إليه، فقال: قد ستر الله عليك فاستر على نفسك، فقلق الرجل فجاء عمر رضي الله عنه فشكا إليه، فقال له مثل مقالة أبا بكر فقلق الرجل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى معه ثم أخبره وقال: اقض في ما شئت، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لعلها زوجة غاز في سبيل الله، قال: نعم، فوبخه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما أدري، فنزلت هذه الآية فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلاها عليه، فقال عمر، يا رسول الله، خاصة؟ قال: بل للناس عامة. معاذ بن جبل:
وروي أن الآية كانت نزلت قبل ذلك واستعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الرجل، وروي أن قال ما حكي عن عمر بن الخطاب معاذ.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الجمعة إلى الجمعة، والصلوات الخمس، ورمضان إلى رمضان- كفارة لما بينها إن اجتنبت الكبائر". فاختلف أهل السنة في تأويل هذا الشرط في قوله: (إن اجتنبت الكبائر) - فقال جمهورهم: هو شرط في معنى الوعد كله، أي: إن اجتنبت الكبائر كانت العبادات المذكورة كفارة للذنوب، فإن لم تجتنب لم تكفر العبادات شيئا من الصغائر، وقالت فرقة: معنى قوله: "إن اجتنبت" أي: هي التي لا تحطها العبادات، فإنما شرط ذلك ليصح بشرطه عموم قوله: "ما بينهما"، وإن لم تجتنب لم تحطها العبادات وحطت الصغائر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وبهذا أقول: وهو الذي يقتضيه حديث خروج الخطايا مع قطر الماء [ ص: 31 ] وغيره، وذلك كله بشرط التوبة من تلك الصغائر وعدم الإصرار عليها، وهذا نص الحذاق الأصوليين، وعلى التأويل الأول تجيء هذه مخصوصة في مجتنبي الكبائر فقط.
وقوله:" ذلك" إشارة إلى الصلوات، ووصفها بـ "ذكرى"، أي: هي سبب ذكر وموضع ذكرى، ويحتمل أن يكون "ذلك: إشارة إلى الإخبار بأن الحسنات يذهبن السيئات، فتكون هذه الذكرى تحض على الحسنات، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى جميع ما تقدم من الأوامر والنواهي في هذه السورة، وهو تفسير . الطبري
ثم أمره تعالى بالصبر.
وجاءت هذه الآيات في نمط واحد: أعلمه الله تعالى أنه يوفي جميع الخلائق أعمالهم، المسيء والمحسن، ثم أمره بالاستقامة والمؤمنين معه، ثم أمره بإقامة الصلوات ووعد على ذلك، ثم أمره بالصبر على التبليغ والمكاره في ذات الله تبارك وتعالى، ثم وعد بقوله: فإن الله لا يضيع أجر المحسنين .