الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب من لم يرق

                                                                                                                                                                                                        5420 حدثنا مسدد حدثنا حصين بن نمير عن حصين بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال عرضت علي الأمم فجعل يمر النبي معه الرجل والنبي معه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد ورأيت سوادا كثيرا سد الأفق فرجوت أن تكون أمتي فقيل هذا موسى وقومه ثم قيل لي انظر فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق فقيل لي انظر هكذا وهكذا فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق فقيل هؤلاء أمتك ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب فتفرق الناس ولم يبين لهم فتذاكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا أما نحن فولدنا في الشرك ولكنا آمنا بالله ورسوله ولكن هؤلاء هم أبناؤنا فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال هم الذين لا يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة بن محصن فقال أمنهم أنا يا رسول الله قال نعم فقام آخر فقال أمنهم أنا فقال سبقك بها عكاشة

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب من لم يرق ) هو بفتح أوله وكسر القاف مبنيا للفاعل ، وبضم أوله وفتح القاف مبنيا للمفعول .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حصين بن نمير ) بنون مصغرا هو الواسطي ، ما له في البخاري سوى هذا الحديث ، وقد تقدم بهذا الإسناد في أحاديث الأنبياء لكن باختصار ، وتقدم الحديث بعينه من وجه آخر عن حصين بن عبد الرحمن في " باب من اكتوى " وذكرت من زاد في أوله قصة وأن شرحه سيأتي في كتاب الرقاق ، والغرض منه هنا قوله " هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون " فأما الطيرة فسيأتي ذكرها بعد هذا ، وأما الكي فتقدم ذكرها فيه هناك ، وأما الرقية فتمسك بهذا الحديث من كره الرقى والكي من بين سائر الأدوية وزعم أنهما قادحان في التوكل دون غيرهما ، وأجاب العلماء عن ذلك بأجوبة : أحدها قاله الطبري والمازري وطائفة أنه محمول على من جانب اعتقاد الطبائعيين في أن الأدوية تنفع بطبعها كما كان أهل الجاهلية يعتقدون ، وقال غيره : الرقى التي يحمد تركها ما كان من كلام الجاهلية وما الذي لا يعقل معناه لاحتمال أن يكون كفرا ، بخلاف الرقى بالذكر ونحوه . وتعقبه عياض وغيره بأن الحديث يدل على أن للسبعين ألفا مزية على غيرهم وفضيلة انفردوا بها عمن شاركهم في أصل الفضل والديانة ، ومن كان يعتقد أن الأدوية تؤثر بطبعها أو يستعمل رقى الجاهلية ونحوها فليس مسلما فلم يسلم هذا الجواب . ثانيها قال الداودي وطائفة إن المراد بالحديث الذين يجتنبون فعل ذلك في الصحة خشية وقوع الداء ، وأما من يستعمل الدواء بعد وقوع الداء به فلا ، وقد قدمت هذا عن ابن قتيبة وغيره في " باب من اكتوى " ، وهذا اختيار ابن عبد البر ، غير أنه معترض بما قدمته من ثبوت الاستعاذة قبل وقوع الداء . ثالثها قال الحليمي : يحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المذكورين في الحديث من غفل عن أحوال الدنيا وما فيها من الأسباب المعدة لدفع العوارض ، فهم لا يعرفون الاكتواء ولا الاسترقاء ، وليس لهم ملجأ فيما يعتريهم إلا الدعاء والاعتصام بالله ، والرضا بقضائه ، فهم غافلون عن طب الأطباء ورقى الرقاة ولا يحسنون من ذلك شيئا ، والله أعلم . رابعها أن المراد بترك الرقى والكي الاعتماد على الله في دفع الداء والرضا بقدره ، لا القدح في جواز ذلك لثبوت وقوعه في الأحاديث الصحيحة وعن السلف الصالح لكن مقام الرضا والتسليم أعلى من تعاطي الأسباب ، وإلى هذا نحا الخطابي ومن تبعه . قال ابن الأثير : هذا من صفة الأولياء المعرضين عن الدنيا وأسبابها وعلائقها ، وهؤلاء هم خواص الأولياء . ولا يرد على هذا وقوع ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلا وأمرا ، لأنه كان في أعلى مقامات العرفان ودرجات التوكل فكان ذلك منه للتشريع وبيان الجواز ، ومع ذلك فلا ينقص ذلك من توكله ، [ ص: 223 ] لأنه كان كامل التوكل يقينا فلا يؤثر فيه تعاطي الأسباب شيئا ، بخلاف غيره ولو كان كثير التوكل ، لكن من ترك الأسباب وفوض وأخلص في ذلك كان أرفع مقاما . قال الطبري : قيل لا يستحق التوكل إلا من لم يخالط قلبه خوف من شيء ألبتة حتى السبع الضاري والعدو العادي ، ولا من لم يسع في طلب رزق ولا في مداواة ألم ، والحق أن من وثق بالله وأيقن أن قضاءه عليه ماض لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب اتباعا لسنته وسنة رسوله ، فقد ظاهر - صلى الله عليه وسلم - في الحرب بين درعين ، ولبس على رأسه المغفر ، وأقعد الرماة على فم الشعب ، وخندق حول المدينة ، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة ، وهاجر هو ، وتعاطى أسباب الأكل والشرب ، وادخر لأهله قوتهم ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء ، وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك ، وقال الذي سأله : أعقل ناقتي أو أدعها ؟ قال : " اعقلها وتوكل " فأشار إلى أن الاحتراز لا يدفع التوكل ، والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية