الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ثم يقص نبأ الحادث الذي نزلت فيه السورة:

                                                                                                                                                                                                                                      هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر. ما ظننتم أن يخرجوا، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فاعتبروا يا أولي الأبصار. ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب النار. ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله، ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هذه الآيات نعلم أن الله هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر. والله هو فاعل كل شيء. ولكن صيغة التعبير تقرر هذه الحقيقة في صورة مباشرة، توقع في الحس أن الله تولى هذا الإخراج من غير ستار لقدرته من فعل البشر! وساق المخرجين للأرض التي منها يحشرون، فلم تعد لهم عودة إلى الأرض التي أخرجوا منها.

                                                                                                                                                                                                                                      ويؤكد فعل الله المباشر في إخراجهم وسوقهم بالفقرة التالية في الآية:

                                                                                                                                                                                                                                      ما ظننتم أن يخرجوا، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ..

                                                                                                                                                                                                                                      فلا أنتم كنتم تتوقعون خروجهم ولا هم كانوا يسلمون في تصور وقوعه! فقد كانوا من القوة والمنعة في حصونهم بحيث لا تتوقعون أنتم أن تخرجوهم منها كما أخرجوا. وبحيث غرتهم هذه المنعة حتى نسوا قوة الله التي لا تردها الحصون!

                                                                                                                                                                                                                                      فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا. وقذف في قلوبهم الرعب .

                                                                                                                                                                                                                                      أتاهم من داخل أنفسهم! لا من داخل حصونهم! أتاهم من قلوبهم فقذف فيها الرعب، ففتحوا حصونهم بأيديهم! وأراهم أنهم لا يملكون ذواتهم، ولا يحكمون قلوبهم، ولا يمتنعون على الله بإرادتهم وتصميمهم! فضلا على أن يمتنعوا عليه ببنيانهم وحصونهم. وقد كانوا يحسبون حساب كل شيء إلا أن يأتيهم الهجوم من داخل كيانهم. فهم لم يحتسبوا هذه الجهة التي أتاهم الله منها. وهكذا حين يشاء الله أمرا. يأتي له من حيث يعلم ومن حيث يقدر، وهو يعلم كل شيء، وهو على كل شيء قدير. فلا حاجة إذن إلى سبب ولا إلى وسيلة، مما يعرفه الناس ويقدرونه. فالسبب حاضر دائما والوسيلة مهيأة. والسبب والنتيجة من صنعه، والوسيلة [ ص: 3522 ] والغاية من خلقه; ولن يمتنع عليه سبب ولا نتيجة، ولن يعز عليه وسيلة ولا غاية ... وهو العزيز الحكيم..

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد تحصن الذين كفروا من أهل الكتاب بحصونهم فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب. ولقد امتنعوا بدورهم وبيوتهم فسلطهم الله على هذه الدور والبيوت يخربونها بأيديهم، ويمكنون المؤمنين من إخرابها:

                                                                                                                                                                                                                                      يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ..

                                                                                                                                                                                                                                      وبهذا تتم حكاية ما وقع للذين كفروا من أهل الكتاب، في تلك الصورة الموحية، وهذه الحركة المصورة.. والله - سبحانه - يأتيهم من وراء الحصون فتسقط بفعلهم هم; ثم يزيدون فيخربونها بأيديهم وأيدي المؤمنين.

                                                                                                                                                                                                                                      هنا يجيء أول تعقيب في ظل هذه الصورة، وعلى إيقاع هذه الحركة:

                                                                                                                                                                                                                                      فاعتبروا يا أولي الأبصار ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهو هتاف يجيء في مكانه وفي أوانه. والقلوب متهيئة للعظة متفتحة للاعتبار.

                                                                                                                                                                                                                                      والآية التالية تقرر أن إرادة الله في النكاية بهم ما كانت لتعفيهم بأية حالة من نكال يصيبهم في الدنيا غير ما ينتظرهم في الآخرة:

                                                                                                                                                                                                                                      ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب النار ..

                                                                                                                                                                                                                                      فهو أمر مقرر أن ينالهم النكال من الله. بهذه الصورة التي وقعت أو بصورة أخرى. ولولا أن اختار الله جلاءهم لعذبهم عذابا آخر. غير عذاب النار الذي ينتظرهم هناك. فقد استحقوا عذاب الله في صورة من صوره على كل حال!

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله. ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ..

                                                                                                                                                                                                                                      والمشاقة أن يأخذوا لهم شقا غير شق الله، وجانبا غير جانبه. وقد جعل الله جانبه هو جانب رسوله حين وصف علة استحقاقهم للعذاب في صدر الآية. فاكتفى في عجزها بمشاقة الله وحده فهي تشمل مشاقة الرسول وتتضمنها. ثم ليقف المشاقون في ناحية أمام الله - سبحانه - وهو موقف فيه تبجح قبيح، حين يقف المخاليق في وجه الخالق يشاقونه! وموقف كذلك رعيب، وهذه المخاليق الضئيلة الهزيلة تتعرض لغضب الله وعقابه.

                                                                                                                                                                                                                                      وهو شديد العقاب.

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا تستقر في القلوب حقيقة مصائر المشاقين لله في كل أرض وفي كل وقت. من خلال مصير الذين كفروا من أهل الكتاب، وما استحقوا به هذا العقاب.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يفوتنا أن نلحظ تسمية القرآن ليهود بني النضير بأنهم الذين كفروا من أهل الكتاب وتكرار هذه الصفة في السورة. فهي حقيقة لأنهم كفروا بدين الله في صورته العليا التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد كان اليهود ينتظرونها ويتوقعونها. وذكر هذه الصفة في الوقت نفسه يحمل بيانا بسبب التنكيل بهم; كما أنه يعبئ شعور المسلمين تجاههم تعبئة روحية تطمئن لها قلوبهم فيما فعلوا معهم، وفيما حل بهم من نكال وعذاب على أيديهم. فذكر هذه الحقيقة هنا مقصود ملحوظ!

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يطمئن المؤمنين على صواب ما أوقعوه بهؤلاء الذين كفروا وشاقوا الله ورسوله من تقطيع نخيلهم وتحريقه، [ ص: 3523 ] أو تركه كذلك قائما، وبيان حكم الله فيه. وقد دخل نفوس بعض المسلمين شيء من هذا:

                                                                                                                                                                                                                                      ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله، وليخزي الفاسقين .. واللينة الجيدة من النخل، أو نوع جيد منه معروف للعرب إذ ذاك. وقد قطع المسلمون بعض نخل اليهود، وأبقوا بعضه. فتحرجت صدورهم من الفعل ومن الترك. وكانوا منهيين قبل هذا الحادث وبعده عن مثل هذا الاتجاه في التخريب والتحريق. فاحتاج هذا الاستثناء إلى بيان خاص، يطمئن القلوب. فجاءهم هذا البيان يربط الفعل والترك بإذن الله. فهو الذي تولى بيده هذه الموقعة; وأراد فيها ما أراد، وأنفذ فيها ما قدره، وكان كل ما وقع من هذا بإذنه. أراد به أن يخزي الفاسقين. وقطع النخيل يخزيهم بالحسرة على قطعه; وتركه يخزيهم بالحسرة على فوته. وإرادة الله وراء هذا وذاك على السواء.

                                                                                                                                                                                                                                      بذلك تستقر قلوب المؤمنين المتحرجة، وتشفى صدورهم مما حاك فيها، وتطمئن إلى أن الله هو الذي أراد وهو الذي فعل. والله فعال لما يريد. وما كانوا هم إلا أداة لإنفاذ ما يريد.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما المقطع الثاني في السورة فيقرر حكم الفيء الذي أفاءه الله على رسوله في هذه الوقعة وفيما يماثلها، مما لم يتكلف فيه المسلمون غزوا ولا قتالا.. أي الوقائع التي تولتها يد الله جهرة ومباشرة وبدون ستار من الخلق كهذه الوقعة:

                                                                                                                                                                                                                                      وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب. ولكن الله يسلط رسله على من يشاء، والله على كل شيء قدير. ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم. وما آتاكم الرسول فخذوه. وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله، إن الله شديد العقاب. للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، يبتغون فضلا من الله ورضوانا، وينصرون الله ورسوله، أولئك هم الصادقون. والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون. والذين جاءوا من بعدهم يقولون: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا. ربنا إنك رءوف رحيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الآيات التي تبين حكم الله في هذا الفيء وأمثاله، تحوي في الوقت ذاته وصفا لأحوال الجماعة المسلمة في حينها كما تقرر طبيعة الأمة المسلمة على توالي العصور، وخصائصها المميزة التي تترابط بها وتتماسك على مدار الزمان، لا ينفصل فيها جيل، ولا قوم عن قوم، ولا نفس عن نفس، في الزمن المتطاول بين أجيالها المتعاقبة في جميع بقاع الأرض. وهي حقيقة ضخمة كبيرة ينبغي الوقوف أمامها طويلا في تدبر عميق..

                                                                                                                                                                                                                                      وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب، ولكن الله يسلط رسله على من يشاء، والله على كل شيء قدير .

                                                                                                                                                                                                                                      والإيجاف: الركض والإسراع. والركاب: الجمال. والآية تذكر المسلمين أن هذا الفيء الذي خلفه وراءهم بنو النضير لم يركضوا هم عليه خيلا، ولم يسرعوا إليه ركبا، فحكمه ليس حكم الغنيمة التي أعطاهم الله أربعة أخماسها، واستبقى خمسها فقط لله والرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. والرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يتصرف فيه كله في هذه الوجوه. وذو القربى المذكورون [ ص: 3524 ] في الآيتين هم قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن كانت الصدقات لا تحل لهم، فليس لهم في الزكاة نصيب، وأن كان النبي لا يورث فليس لذوي قرابته من ماله شيء. وفيهم الفقراء الذين لا مورد لهم. فجعل لهم من خمس الغنائم نصيبا، كما جعل لهم من هذا الفيء وأمثاله نصيبا. فأما بقية الطوائف والمصارف فأمرها معروف. والرسول - صلى الله عليه وسلم - هو المتصرف فيها.

                                                                                                                                                                                                                                      هذا هو حكم الفيء تبينه الآيات. ولكنها لا تقتصر على الحكم وعلته القريبة. إنما تفتح القلوب على حقيقة أخرى كبيرة: ولكن الله يسلط رسله على من يشاء .. فهو قدر الله. وهم طرف من هذا القدر يسلطه على من يشاء. والله على كل شيء قدير ..

                                                                                                                                                                                                                                      بهذا يتصل شأن الرسل بقدر الله المباشر; ويتحدد مكانهم في دولاب القدر الدوار. ويتبين أنهم - ولو أنهم بشر - متصلون بإرادة الله ومشيئته اتصالا خاصا، يجعل لهم دورا معينا في تحقيق قدر الله في الأرض، بإذن الله وتقديره. فما يتحركون بهواهم، وما يأخذون أو يدعون لحسابهم. وما يغزون أو يقعدون، وما يخاصمون أو يصالحون، إلا لتحقيق جانب من قدر الله في الأرض منوط بهم وبتصرفاتهم وتحركاتهم في هذه الأرض. والله هو الفاعل من وراء ذلك كله. وهو على كل شيء قدير..

                                                                                                                                                                                                                                      ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.. كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم. وما آتاكم الرسول فخذوه. وما نهاكم عنه فانتهوا. واتقوا الله إن الله شديد العقاب ..

                                                                                                                                                                                                                                      وتبين هذه الآية الحكم الذي أسلفنا تفصيلا. ثم تعلل هذه القسمة فتضع قاعدة كبرى من قواعد التنظيم الاقتصادي والاجتماعي في المجتمع الإسلامي: كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم .. كما تضع قاعدة كبرى في التشريع الدستوري للمجتمع الإسلامي: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا .. ولو أن هاتين القاعدتين جاءتا بمناسبة هذا الفيء وتوزيعه، إلا أنهما تتجاوزان هذا الحادث الواقع إلى آماد كثيرة في أسس النظام الاجتماعي الإسلامي.

                                                                                                                                                                                                                                      والقاعدة الأولى، قاعدة التنظيم الاقتصادي، تمثل جانبا كبيرا من أسس النظرية الاقتصادية في الإسلام. فالملكية الفردية معترف بها في هذه النظرية. ولكنها محددة بهذه القاعدة. قاعدة ألا يكون المال دولة بين الأغنياء، ممنوعا من التداول بين الفقراء. فكل وضع ينتهي إلى أن يكون المال دولة بين الأغنياء وحدهم هو وضع يخالف النظرية الاقتصادية الإسلامية كما يخالف هدفا من أهداف التنظيم الاجتماعي كله. وجميع الارتباطات والمعاملات في المجتمع الإسلامي يجب أن تنظم بحيث لا تخلق مثل هذا الوضع أو تبقي عليه إن وجد.

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد أقام الإسلام بالفعل نظامه على أساس هذه القاعدة. ففرض الزكاة. وجعل حصيلتها في العام اثنين ونصفا في المائة من أصل رؤوس الأموال النقدية، وعشرة أو خمسة في المائة من جميع الحاصلات. وما يعادل ذلك في الأنعام. وجعل الحصيلة في الركاز وهو كنوز الأرض مثلها في المال النقدي. وهي نسب كبيرة. ثم جعل أربعة أخماس الغنيمة للمجاهدين فقراء وأغنياء بينما جعل الفيء كله للفقراء. وجعل نظامه المختار في إيجار الأرض هو المزارعة - أي المشاركة في المحصول الناتج بين صاحب الأرض وزارعها. وجعل للإمام [ ص: 3525 ] الحق في أن يأخذ فضول أموال الأغنياء فيردها على الفقراء. وأن يوظف في أموال الأغنياء عند خلو بيت المال. وحرم الاحتكار. وحظر الربا. وهما الوسيلتان الرئيسيتان لجعل المال دولة بين الأغنياء.

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى الجملة أقام نظامه الاقتصادي كله بحيث يحقق تلك القاعدة الكبرى التي تعد قيدا أصيلا على حق الملكية الفردية بجانب القيود الأخرى .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم فالنظام الإسلامي نظام يبيح الملكية الفردية، ولكنه ليس هو النظام الرأسمالي، كما أن النظام الرأسمالي ليس منقولا عنه، فما يقوم النظام الرأسمالي إطلاقا بدون ربا وبدون احتكار، إنما هو نظام خاص من لدن حكيم خبير. نشأ وحده. وسار وحده، وبقي حتى اليوم وحده. نظاما فريدا متوازن الجوانب، متعادل الحقوق والواجبات، متناسقا تناسق الكون كله. مذ كان صدوره عن خالق الكون. والكون متناسق موزون!

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية