الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3613 ] كما ورد مشهد للكافرين في هذه النار. واختتمت السورة بالحديث عن امرأة نوح وامرأة لوط كمثل للكفر في بيت مؤمن. وعن امرأة فرعون كمثل للإيمان في بيت كافر، وكذلك عن مريم ابنة عمران التي تطهرت فتلقت النفخة من روح الله وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين..

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك، تبتغي مرضات أزواجك، والله غفور رحيم. قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض، فلما نبأها به قالت: من أنبأك هذا؟ قال: نبأني العليم الخبير إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما، وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين، والملائكة بعد ذلك ظهير. عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا ..

                                                                                                                                                                                                                                      وردت في سبب نزول هذه الآيات روايات متعددة منها ما رواه البخاري عند هذه الآية قال: حدثنا إبراهيم ابن موسى، أخبرنا هشام بن يوسف، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة، قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشرب عسلا عند زينب بنت جحش، ويمكث عندها. فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير . إني أجد منك ريح مغافير. قال: "لا. ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له. وقد حلفت. لا تخبري بذلك أحدا".. فهذا هو ما حرمه على نفسه وهو حلال له: لم تحرم ما أحل الله لك؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      ويبدو أن التي حدثها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث وأمرها بستره قالت لزميلتها المتآمرة معها. فأطلع الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - على الأمر. فعاد عليها في هذا وذكر لها بعض ما دار بينها وبين زميلتها دون استقصاء لجميعه. تمشيا مع أدبه الكريم. فقد لمس الموضوع لمسا مختصرا لتعرف أنه يعرف وكفى. فدهشت هي وسألته: "من أنبأك هذا؟".. ولعله دار في خلدها أن الأخرى هي التي نبأته! ولكنه أجابها: "نبأني العليم الخبير".. فالخبر من المصدر الذي يعلمه كله. ومضمون هذا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم كل ما دار، لا الطرف الذي حدثها به وحده!

                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان من جراء هذا الحادث، وما كشف عنه من تآمر ومكايدات في بيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن غضب. فآلى من نسائه لا يقربهن شهرا، وهم بتطليقهن - على ما تسامع المسلمون - ثم نزلت هذه الآيات. وقد هدأ غضبه - صلى الله عليه وسلم - فعاد إلى نسائه بعد تفصيل سنذكره بعد عرض رواية أخرى للحادث.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الرواية الأخرى أخرجها النسائي من حديث أنس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها. فأنزل الله عز وجل: يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك ...

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية لابن جرير ولابن إسحاق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وطئ مارية أم ولده إبراهيم في بيت حفصة. فغضبت وعدتها إهانة لها. فوعدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتحريم مارية وحلف بهذا. [ ص: 3614 ] وكلفها كتمان الأمر. فأخبرت به عائشة.. فهذا هو الحديث الذي جاء ذكره في السورة.

                                                                                                                                                                                                                                      وكلا الروايتين يمكن أن يكون هو الذي وقع. وربما كانت هذه الثانية أقرب إلى جو النصوص وإلى ما أعقب الحادث من غضب كاد يؤدي إلى طلاق زوجات الرسول - صلى الله عليه وسلم - نظرا لدقة الموضوع وشدة حساسيته. ولكن الرواية الأولى أقوى إسنادا. وهي في الوقت ذاته ممكنة الوقوع، ويمكن أن تحدث الآثار التي ترتبت عليها. إذا نظرنا إلى المستوى الذي يسود بيوت النبي، مما يمكن أن تعد فيه الحادثة بهذا الوصف شيئا كبيرا.. والله أعلم أي ذلك كان؟.

                                                                                                                                                                                                                                      أما وقع هذا الحادث - حادث إيلاء النبي - صلى الله عليه وسلم - من أزواجه، فيصوره الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وهو يرسم كذلك جانبا من صورة المجتمع الإسلامي يومذاك.. قال: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن ابن عباس قال: "لم أزل حريصا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللتين قال الله تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) حتى حج عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة، فتبرز، ثم أتاني فسكبت على يديه فتوضأ، فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - اللتان قال الله تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) ؟ فقال عمر: واعجبا لك يا ابن عباس! (قال الزهري: كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه) قال: هي عائشة وحفصة. قال: ثم أخذ يسوق الحديث، قال: كنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم. قال: وكان منزلي في دار أمية بن زيد بالعوالي. قال: فغضبت يوما علي امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني. فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فو الله إن أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل! قال: فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت: أتراجعين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالت: نعم! قلت: وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم! قلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر! أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت؟ لا تراجعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تسأليه شيئا وسليني من مالي ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم - أي أجمل - وأحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منك - يريد عائشة - قال: وكان لي جار من الأنصار وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينزل يوما وأنزل يوما، فيأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك. قال: وكنا نتحدث أن غسان تنحل الخيل لتغزونا. فنزل صاحبي يوما ثم أتى عشاء فضرب بابي ثم نادى، فخرجت إليه، فقال: حدث أمر عظيم. فقلت: وما ذاك؟ أجاءت غسان؟ قال: لا. بل أعظم من ذلك وأطول! طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه! فقلت: قد خابت حفصة وخسرت! قد كنت أظن هذا كائنا. حتى إذا صليت الصبح شددت على ثيابي ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي. فقلت: أطلقكن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم؟ - فقالت: لا أدري. هو هذا معتزل في هذه المشربة. فأتيت غلاما أسود فقلت: استأذن لعمر. فدخل الغلام ثم خرج إلي فقال: ذكرتك له فصمت! فانطلقت حتى أتيت المنبر، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم. فجلست عنده قليلا، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر. فدخل ثم خرج إلي فقال: ذكرتك له فصمت! فخرجت فجلست إلى المنبر، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر. فدخل ثم خرج إلي فقال: ذكرتك له فصمت! فوليت مدبرا فإذا الغلام يدعوني. فقال: ادخل قد أذن لك. فدخلت فسلمت على رسول الله - صلى الله عليه [ ص: 3615 ] وسلم - فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثر في جنبه. فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إلي وقال: "لا". فقلت: الله أكبر! ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، فغضبت علي امرأتي يوما، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فو الله إن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر! أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله; فإذا هي قد هلكت؟ فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله قد دخلت على حفصة فقلت: لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم أو أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منك! فتبسم أخرى. فقلت: أستأنس يا رسول الله! قال: "نعم" فجلست، فرفعت رأسي في البيت فو الله ما رأيت في البيت شيئا يرد البصر إلا هيبة مقامه فقلت: ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله. فاستوى جالسا وقال: "أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا". فقلت: استغفر لي يا رسول الله.. وكان أقسم ألا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله عز وجل".. (وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن الزهري بهذا النص) ..

                                                                                                                                                                                                                                      هذه رواية الحادث في السير. فلننظر في السياق القرآني الجميل:

                                                                                                                                                                                                                                      تبدأ السورة بهذا العتاب من الله سبحانه لرسوله - صلى الله عليه وسلم - :

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك، تبتغي مرضات أزواجك، والله غفور رحيم؟ قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم، والله مولاكم، وهو العليم الحكيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهو عتاب مؤثر موح. فما يجوز أن يحرم المؤمن على نفسه ما أحله الله له من متاع. والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن حرم العسل أو مارية بمعنى التحريم الشرعي; إنما كان قد قرر حرمان نفسه. فجاء هذا العتاب يوحي بأن ما جعله الله حلالا فلا يجوز حرمان النفس منه عمدا وقصدا إرضاء لأحد.. والتعقيب: والله غفور رحيم .. يوحي بأن هذا الحرمان من شأنه أن يستوجب المؤاخذة، وأن تتداركه مغفرة الله ورحمته. وهو إيحاء لطيف.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما اليمين التي يوحي النص بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد حلفها، فقد فرض الله تحلتها. أي كفارتها التي يحل منها. ما دامت في غير معروف والعدول عنها أولى. والله مولاكم .. فهو يعينكم على ضعفكم وعلى ما يشق عليكم. ومن ثم فرض تحلة الأيمان، للخروج من العنت والمشقة.. وهو العليم الحكيم . يشرع لكم عن علم وعن حكمة، ويأمركم بما يناسب طاقتكم وما يصلح لكم. فلا تحرموا إلا ما حرم، ولا تحلوا غير ما أحل. وهو تعقيب يناسب ما قبله من توجيه.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يشير إلى الحديث ولا يذكر موضوعه ولا تفصيله، لأن موضوعه ليس هو المهم، وليس هو العنصر الباقي فيه. إنما العنصر الباقي هو دلالته وآثاره:

                                                                                                                                                                                                                                      وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا ..

                                                                                                                                                                                                                                      ومن النص نطلع على نموذج من تلك الفترة العجيبة في تاريخ البشرية. الفترة التي يعيش فيها الناس مع السماء. والسماء تتدخل في أمرهم علانية وتفصيلا. ونعلم أن الله قد أطلع نبيه على ما دار بين زوجيه بشأن ذلك الحديث [ ص: 3616 ] الذي أسره إلى بعض أزواجه. وأنه - صلى الله عليه وسلم - حين راجعها فيه اكتفى بالإشارة إلى جانب منه. ترفعا عن السرد الطويل، وتجملا عن الإطالة في التفصيل; وأنه أنبأها بمصدر علمه وهو المصدر الأصيل:

                                                                                                                                                                                                                                      فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض. فلما نبأها به قالت: من أنبأك هذا؟ قال: نبأني العليم الخبير ..

                                                                                                                                                                                                                                      والإشارة إلى العلم والخبرة هنا إشارة مؤثرة في حالة التآمر والمكايدات المحبوكة وراء الأستار! ترد السائلة إلى هذه الحقيقة التي ربما نسيتها أو غفلت عنها، وترد القلوب بصفة عامة إلى هذه الحقيقة كلما قرأت هذا القرآن.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية