الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              وروى داود بن سعيد عن مالك عن عمه عن عمر بن عبد العزيز أن القرابة لا للسلم منه إلا بالفقر ، وهي : المسألة الرابعة : قال مالك : وبه أقول .

                                                                                                                                                                                                              وقد قال أبو حنيفة : لا يعطي القرابة إلا أن يكونوا فقراء : فزاد الفقر على النص ، والزيادة عنده على النص نسخ ، ولا يجوز نسخ القرآن إلا بقرآن مثله أو بخبر متواتر .

                                                                                                                                                                                                              فأما مالك فاحتج بأن ذلك جعل لهم عوضا عن الصدقة .

                                                                                                                                                                                                              وقد قال عمر بن عبد العزيز قوله : { فأن لله خمسه وللرسول } يعني في سبيل الله .

                                                                                                                                                                                                              وهذا هو الصحيح كله .

                                                                                                                                                                                                              والدليل عليه ما روي في الصحيح { أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية قبل نجد ، فأصابوا في سهمانهم اثني عشر بعيرا ، ونفلوا بعيرا بعيرا } .

                                                                                                                                                                                                              وثبت عنه عليه السلام أنه قال في أسارى بدر : { لو كان المطعم بن عدي حيا وكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له } .

                                                                                                                                                                                                              وثبت عنه أنه رد سبي هوازن وفيه الخمس .

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 404 ] وثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال : { آثر النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين أناسا في الغنيمة ، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل ، وأعطى عيينة مائة من الإبل ، وأعطى أناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة ، فقال رجل : والله إن هذه القسمة ما عدل فيها ، أو ما أريد بها وجه الله . فقلت : والله لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم . فأخبرته ، فقال : يرحم الله أخي موسى ، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر } .

                                                                                                                                                                                                              وفي الصحيح : { إنما أنا قاسم ، بعثت أن أقسم بينكم فالله حاكم ، والنبي قاسم ، والحق للخلق } .

                                                                                                                                                                                                              وصح عن { علي رضي الله عنه أنه قال : كان لي شارف من نصيبي يوم بدر ، وأعطاني رسول الله شارفا من الخمس } .

                                                                                                                                                                                                              وروى مسلم وغيره ، عن عبد المطلب بن ربيعة قال : { اجتمع ربيعة بن الحارث ، والعباس بن عبد المطلب ، فقالا : والله لو بعثنا هذين فقالا لي ، وللفضل بن عباس : اذهبا إلى رسول الله فكلماه يؤمنكما على هذه الصدقة ، فأديا ما يؤدي الناس ، بشراء مما يصيب الناس ، فبينما هما في ذلك إذ دخل علي بن أبي طالب ، فوقف عليهما ، فذكرا ذلك له ، فقال علي : لا تفعلا ، فوالله ما هو بفاعل . فابتدأه ربيعة بن الحارث فقال : والله ما هذا إلا نفاسة منك علينا ، فوالله لقد نلت صهر رسول الله فما نفسناه عليك . فقال علي : أنا أبو حسن القوم أرسلوهما ، فانطلقا ، واضطجع علي ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سبقناه إلى الحجرة ، فقمنا عندها حتى جاء ، فأخذ بآذاننا ، ثم قال : أخرجا ما تصرران ثم دخل ، ودخلنا عليه ، وهو يومئذ عند زينب بنت جحش قال : فتزايلنا الكلام ، ثم تكلم أحدنا ، فقال : يا رسول الله ; أنت أبر الناس [ ص: 405 ] بشراء الناس ، وقد بلغنا النكاح ، فجئناك لتؤمرنا على بعض هذه الصدقات ، فنؤدي إليك ما يؤدي الناس ، ونصيب كما يصيبون . قال : فسكت طويلا حتى أردنا أن نكلمه . قال : وجعلت زينب يزال إلينا من وراء الحجاب ألا تكلماه . ثم قال : إن الصدقة لا تحل لآل محمد ; إنما هي أوساخ الناس ، ادعوا لي محمية وكان على الخمس ، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب . قال : فجاءاه . فقال لمحمية : أنكح هذا الغلام ابنتك للفضل بن عباس يعني لي ، فأنكحه . وقال لنوفل بن الحارث : أنكح هذا الغلام بنتك يعني لي ، فأنكحني . وقال لمحمية : أصدق عنهما من مال الخمس كذا وكذا . } وفي رواية أنه قال لهما : { إن الصدقة أوساخ الناس ، ولكن انظروا إذا أخذت بحلقة الجنة ، هل أوثر عليكم أحدا ؟ }

                                                                                                                                                                                                              وقد قال أصحاب الشافعي : خمس الخمس للرسول ، والأربعة أخماس من الخمس للأربعة أصناف المسمين معه ، وله سهم كسائر سهام الغانمين إذا حضر الغنيمة ، وله سهم الصفي يصطفي سيفا أو خادما أو دابة .

                                                                                                                                                                                                              فأما سهم القتال فبكونه أشرف المقاتلين ، وأما سهم الصفي فمنصوص له في السير ، منه ذو الفقار ، وصفية ، وغير ذلك .

                                                                                                                                                                                                              وأما خمس الخمس فبحق التقسيم في الآية .

                                                                                                                                                                                                              قال الإمام الفاضل أبو بكر بن العربي رضي الله عنه : قد بينا الرد عليه ، وأوضحنا أن الله إنما ذكر نفسه تشريفا لهذا المكتسب ، وأما رسوله فقد قال : { إنما أنا قاسم ، والله المعطي } .

                                                                                                                                                                                                              وقال : { ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس ، والخمس مردود فيكم } [ ص: 406 ] وقد أعطى جميعه وبعضه ، وأعطى منه للمؤلفة قلوبهم ، وليسوا ممن ذكر الله في التقسيم ، ورده على المجاهدين بأعيانهم تارة أخرى ; فدل على أن ذكر هذه الأقسام بيان مصرف ومحل ، لا بيان استحقاق وملك ; وهذا ما لا جواب عنه لمنصف .

                                                                                                                                                                                                              وأما الصفي فحق في حياته ، وقد انقطع بعد موته إلا عند أبي ثور ، فإنه رآه باقيا للإمام ، فجعله مجعل سهم النبي ، وهذا ضعيف ; والحكمة فيه أن الجاهلية كانوا يرون للرئيس في الغنيمة ما قال الشاعر :

                                                                                                                                                                                                              لك المرباع منها والصفايا وحكمك والنشيطة والفضول

                                                                                                                                                                                                              فكان يأخذ بغير شرع ولا دين الربع من الغنيمة ; ويصطفي منها ، ثم يتحكم بعد الصفي في أي شيء أراد ، وكان ما شذ منها له ، وما فضل من خرثي ومتاع ; فأحكم الله الدين بقوله : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } وأبقى سهم الصفي لرسوله ، وأسقط حكم الجاهلية ، ومن أحسن من الله حكما أو أوسع منه علما .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الخامسة : ادعى المقصرون من أصحاب الشافعي أن خمس الخمس كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصرفه : في كفاية أولاده ونسائه ، ويدخر من ذلك قوت سنته ، ويصرف الباقي إلى الكراع والسلاح ; وهذا فاسد من وجهين : أحدهما أن الدليل قد تقدم على أن الخمس كله لرسوله بقوله صلى الله عليه وسلم : { ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس ، والخمس مردود فيكم } .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : ما ثبت في الصحيح عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : قال : بينا أنا جالس عند عمر أتاه حاجبه يرفأ ، فقال : هل لك في عثمان ، وعبد الرحمن بن عوف [ ص: 407 ] والزبير ، وسعد بن أبي وقاص يستأذنون ؟ قال : نعم . فأذن لهم ، فدخلوا فسلموا وجلسوا ، ثم جلس يرفأ يسيرا ، ثم قال : هل لك في علي وعباس ؟ قال : نعم ، فأذن لهما فدخلا فسلما وجلسا ، فقال العباس : يا أمير المؤمنين ، اقض بيني وبين هذا ، وهما يختصمان فيما أفاء الله على رسوله من بني النضير . فقال الرهط عثمان وأصحابه : يا أمير المؤمنين ، اقض بينهما ، وأرح أحدهما من الآخر . فقال عمر : يا تيد ، كم أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا نورث ما تركنا صدقة ؟ } يريد رسول الله نفسه . قال الرهط : قد قال ذلك . فأقبل عمر على علي وعباس فقال : أنشدكما بالله تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك ؟ قالا : نعم . قال عمر : فإني أحدثكم عن هذا الأمر : إن الله قد خص رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعطه غيره ، قال : { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء } . فكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : والله ما اختارها دونكم ، ولا استأثر بها عليكم ، قد أعطاكموها ، وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ، ثم يأخذ ما بقي ، فيجعله مجعل مال الله .

                                                                                                                                                                                                              فهذا حديث مالك بن أوس قال فيه : إن بني النضير كانت لرسول الله ينفق منها على أهله نفقة سنتهم .

                                                                                                                                                                                                              وفي حديث عائشة في الصحيح : { ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وفدك وصدقته بالمدينة } ; فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس . وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر ، وقال : هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت لحقوقه التي تعروه ونوائبه ، وأمرها إلى من ولي الأمر بعده .

                                                                                                                                                                                                              فقد ثبت أن خيبر وفدك وبني النضير كانت لقوت رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه وعياله [ ص: 408 ] سنة ، ولحقوقه ونوائبه التي تعروه ، لا خمس الخمس الذي ادعاه أصحاب الشافعي .

                                                                                                                                                                                                              وهذا نص لا غبار عليه ولا كلام لأحد فيه .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية