الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة ..

                                                                                                                                                                                                                                      إن هذا النص ليشير إشارة سريعة إلى حالة تعجز الكلمات عن تصويرها كما يعجز الإدراك عن تصورها بكل حقيقتها. ذلك حين يعد الموعودين السعداء بحالة من السعادة لا تشبهها حالة. حتى لتتضاءل إلى جوارها الجنة بكل ما فيها من ألوان النعيم!

                                                                                                                                                                                                                                      هذه الوجوه الناضرة.. نضرها أنها إلى ربها ناظرة..

                                                                                                                                                                                                                                      إلى ربها..؟! فأي مستوى من الرفعة هذا؟ أي مستوى من السعادة؟

                                                                                                                                                                                                                                      إن روح الإنسان لتستمتع أحيانا بلمحة من جمال الإبداع الإلهي في الكون أو النفس، تراها في الليلة القمراء. أو الليل الساجي. أو الفجر الوليد. أو الظل المديد. أو البحر العباب. أو الصحراء المنسابة. أو الروض البهيج. أو الطلعة البهية. أو القلب النبيل. أو الإيمان الواثق. أو الصبر الجميل.. إلى آخر مطالع الجمال في هذا الوجود.. فتغمرها النشوة، وتفيض بالسعادة، وترف بأجنحة من نور في عوالم مجنحة طليقة. وتتوارى [ ص: 3771 ] عنها أشواك الحياة، وما فيها من ألم وقبح، وثقلة طين وعرامة لحم ودم، وصراع شهوات وأهواء..

                                                                                                                                                                                                                                      فكيف؟ كيف بها وهي تنظر - لا إلى جمال صنع الله - ولكن إلى جمال ذات الله؟

                                                                                                                                                                                                                                      ألا إنه مقام يحتاج أولا إلى مد من الله. ويحتاج ثانيا إلى تثبيت من الله. ليملك الإنسان نفسه، فيثبت، ويستمتع بالسعادة، التي لا يحيط بها وصف، ولا يتصور حقيقتها إدراك!

                                                                                                                                                                                                                                      وجوه يومئذ ناضرة.. إلى ربها ناظرة ..

                                                                                                                                                                                                                                      ومالها لا تتنضر وهي إلى جمال ربها تنظر؟

                                                                                                                                                                                                                                      إن الإنسان لينظر إلى شيء من صنع الله في الأرض. من طلعة بهية، أو زهرة ندية، أو جناح رفاف، أو روح نبيل، أو فعل جميل. فإذا السعادة تفيض من قلبه على ملامحه، فيبدو فيها الوضاءة والنضارة. فكيف بها حين تنظر إلى جمال الكمال. مطلقا من كل ما في الوجود من شواغل عن السعادة بالجمال؟ فما تبلغ الكينونة الإنسانية ذلك المقام، إلا وقد خلصت من كل شائبة تصدها عن بلوغ ذلك المرتقى الذي يعز على الخيال! كل شائبة لا فيما حولها فقط، ولكن فيها هي ذاتها من دواعي النقص والحاجة إلى شيء ما سوى النظر إلى الله..

                                                                                                                                                                                                                                      فأما كيف تنظر؟ وبأي جارحة تنظر؟ وبأي وسيلة تنظر؟ .. فذلك حديث لا يخطر على قلب يمسه طائف من الفرح الذي يطلقه النص القرآني، في القلب المؤمن، والسعادة التي يفيضها على الروح، والتشوف والتطلع والانطلاق!

                                                                                                                                                                                                                                      فما بال أناس يحرمون أرواحهم أن تعانق هذا النور الفائض بالفرح والسعادة؟ ويشغلونها بالجدل حول مطلق، لا تدركه العقول المقيدة بمألوفات العقل ومقرراته؟!

                                                                                                                                                                                                                                      إن ارتقاء الكينونة الإنسانية وانطلاقها من قيود هذه الكينونة الأرضية المحدودة، هو فقط محط الرجاء في التقائها بالحقيقة الطليقة يومذاك. وقبل هذا الانطلاق سيعز عليها أن تتصور - مجرد تصور - كيف يكون ذلك اللقاء.

                                                                                                                                                                                                                                      وإذن فقد كان جدلا ضائعا ذلك الجدل الطويل المديد الذي شغل به المعتزلة أنفسهم ومعارضيهم من أهل السنة والمتكلمين حول حقيقة النظر والرؤية في مثل ذلك المقام.

                                                                                                                                                                                                                                      لقد كانوا يقيسون بمقاييس الأرض; ويتحدثون عن الإنسان المثقل بمقررات العقل في الأرض; ويتصورون الأمر بالمدارك المحدودة المجال.

                                                                                                                                                                                                                                      إن مدلول الكلمات ذاته مقيد بما تدركه عقولنا وتصوراتنا المحدودة. فإذا انطلقت وتحررت من هذه التصورات فقد تتغير طبيعة الكلمات. فالكلمات ليست سوى رموز يختلف ما ترمز إليه بحسب التصورات الكامنة في مدارك الإنسان. فإذا تغيرت طاقته تغير معها رصيده من التصورات، وتغيرت معها طبيعة مدلول الكلمات. ونحن نتعامل في هذه الأرض بتلك الرموز على قدر حالنا! فما لنا نخوض في أمر لا يثبت لنا منه حتى مدلول الكلمات؟!

                                                                                                                                                                                                                                      فلنتطلع إلى فيض السعادة الغامر الهادئ، وفيض الفرح المقدس الطهور، الذي ينطلق من مجرد تصورنا لحقيقة الموقف على قدر ما نملك. ولنشغل أرواحنا بالتطلع إلى هذا الفيض ، فهذا التطلع ذاته نعمة. لا تفوقها إلا نعمة النظر إلى وجهه الكريم..

                                                                                                                                                                                                                                      ووجوه يومئذ باسرة، تظن أن يفعل بها فاقرة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3772 ] وهي الوجوه الكالحة المتقبضة التعيسة، المحجوبة عن النظر والتطلع، بخطاياها وارتكاسها وكثافتها وانطماسها. وهي التي يشغلها ويحزنها ويخلع عليها البسر والكلوحة توقعها أن تحل بها الكارثة القاصمة للظهر، المحطمة للفقار.. الفاقرة. وهي من التوقع والتوجس في كرب وكلوحة وتقبض وتنغيص..

                                                                                                                                                                                                                                      فهذه هي الآخرة التي يذرونها ويهملونها; ويتجهون إلى العاجلة يحبونها ويحفلونها. ووراءهم هذا اليوم الذي تختلف فيه المصائر والوجوه، هذا الاختلاف الشاسع البعيد!!! من وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة إلى وجوه يومئذ باسرة، تظن أن يفعل بها فاقرة!!!

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا كانت مشاهد القيامة.. إذا برق البصر، وخسف القمر، وجمع الشمس والقمر، وقال الإنسان يومئذ أين المفر. ولا مفر. وإذا اختلفت المصائر والوجوه، ذلك الاختلاف الشاسع البعيد، فكانت وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة، ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة..

                                                                                                                                                                                                                                      إذا كانت تلك المشاهد تستمد قوتها وإيقاعها في النفس، من قوة الحقيقة الكامنة فيها، وقوة الأداء القرآني الذي يشخصها ويحييها، فإن السورة بعد عرض تلك المشاهد تقرب وتقرب حتى تلمس حس المخاطبين بمشهد آخر حاضر واقع مكرور، لا تمر لحظة حتى يواجههم في هذه الأرض بقوته ووضوحه ووزنه الثقيل!

                                                                                                                                                                                                                                      إنه مشهد الموت. الموت الذي ينتهي إليه كل حي، والذي لا يدفعه عن نفسه ولا عن غيره حي. الموت الذي يفرق الأحبة، ويمضي في طريقه لا يتوقف، ولا يتلفت، ولا يستجيب لصرخة ملهوف، ولا لحسرة مفارق، ولا لرغبة راغب ولا لخوف خائف! الموت الذي يصرع الجبابرة بنفس السهولة التي يصرع بها الأقزام، ويقهر بها المتسلطين كما يقهر المستضعفين سواء! الموت الذي لا حيلة للبشر فيه وهم مع هذا لا يتدبرون القوة القاهرة التي تجريه:

                                                                                                                                                                                                                                      كلا! إذا بلغت التراقي، وقيل: من راق؟ وظن أنه الفراق، والتفت الساق بالساق. إلى ربك يومئذ المساق ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنه مشهد الاحتضار، يواجههم به النص القرآني كأنه حاضر، وكأنه يخرج من ثنايا الألفاظ ويتحرك كما تخرج ملامح الصورة من خلال لمسات الريشة!

                                                                                                                                                                                                                                      كلا إذا بلغت التراقي .. وحين تبلغ الروح التراقي يكون النزع الأخير، وتكون السكرات المذهلة، ويكون الكرب الذي تزوغ منه الأبصار.. ويتلفت الحاضرون حول المحتضر يتلمسون حيلة أو وسيلة لاستنقاذ الروح المكروب: وقيل: من راق؟

                                                                                                                                                                                                                                      لعل رقية تفيد! .. وتلوى المكروب من السكرات والنزع.. والتفت الساق بالساق .. وبطلت كل حيلة، وعجزت كل وسيلة، وتبين الطريق الواحد الذي يساق إليه كل حي في نهاية المطاف: إلى ربك يومئذ المساق ..

                                                                                                                                                                                                                                      إن المشهد ليكاد يتحرك وينطق. وكل آية ترسم حركة. وكل فقرة تخرج لمحة. وحالة الاحتضار ترتسم ويرتسم معها الجزع والحيرة واللهفة ومواجهة الحقيقة القاسية المريرة، التي لا دافع لها ولا راد.. ثم تظهر النهاية التي لا مفر منها.. إلى ربك يومئذ المساق ..

                                                                                                                                                                                                                                      ويسدل الستار على المشهد الفاجع، وفي العين منه صورة، وفي الحس منه أثر، وعلى الجو كله وجوم صامت مرهوب.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3773 ] وفي مواجهة المشهد المكروب الملهوف الجاد الواقع يعرض مشهد اللاهين المكذبين، الذين لا يستعدون بعمل ولا طاعة، بل يقدمون المعصية والتولي، في عبث ولهو، وفي اختيال بالمعصية والتولي:

                                                                                                                                                                                                                                      فلا صدق ولا صلى، ولكن كذب وتولى، ثم ذهب إلى أهله يتمطى ! ..

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ورد أن هذه الآيات تعني شخصا معينا بالذات، قيل هو أبو جهل "عمرو بن هشام".. وكان يجيء أحيانا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمع منه القرآن. ثم يذهب عنه، فلا يؤمن ولا يطيع، ولا يتأدب ولا يخشى ويؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقول، ويصد عن سبيل الله. ثم يذهب مختالا بما يفعل، فخورا بما ارتكب من الشر، كأنما فعل شيئا يذكر..

                                                                                                                                                                                                                                      والتعبير القرآني يتهكم به، ويسخر منه، ويثير السخرية كذلك، وهو يصور حركة اختياله بأنه "يتمطى!" يمط في ظهره ويتعاجب تعاجبا ثقيلا كريها!

                                                                                                                                                                                                                                      وكم من أبي جهل في تاريخ الدعوة إلى الله، يسمع ويعرض، ويتفنن في الصد عن سبيل الله، والأذى للدعاة، ويمكر مكر السيئ، ويتولى وهو فخور بما أوقع من الشر والسوء، وبما أفسد في الأرض، وبما صد عن سبيل الله، وبما مكر لدينه وعقيدته وكاد!

                                                                                                                                                                                                                                      والقرآن يواجه هذه الخيلاء الشريرة بالتهديد والوعيد:

                                                                                                                                                                                                                                      أولى لك فأولى. ثم أولى لك فأولى ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهو تعبير اصطلاحي يتضمن التهديد والوعيد، وقد أمسك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخناق أبي جهل مرة، وهزه، وهو يقول له: أولى لك فأولى. ثم أولى لك فأولى .. فقال عدو الله: أتوعدني يا محمد؟ والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئا. وإني لأعز من مشى بين جبليها!! فأخذه الله يوم بدر بيد المؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبرب محمد القوي القهار المتكبر. ومن قبله قال فرعون لقومه: ما علمت لكم من إله غيري .. وقال: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي؟ .. ثم أخذه الله كذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وكم من أبي جهل في تاريخ الدعوات يعتز بعشيرته وبقوته وبسلطانه; ويحسبها شيئا; وينسى الله وأخذه. حتى يأخذه أهون من بعوضة، وأحقر من ذبابة.. إنما هو الأجل الموعود لا يستقدم لحظة ولا يستأخر.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي النهاية يمس القلوب بحقيقة أخرى واقعية في حياتهم، لها دلالتها على تدبير الله وتقديره لحياة الإنسان. ولها دلالتها كذلك على النشأة الآخرة التي ينكرونها أشد الإنكار. ولا مفر من مواجهتها، ولا حيلة في دفع دلالتها:

                                                                                                                                                                                                                                      أيحسب الإنسان أن يترك سدى؟ ألم يك نطفة من مني يمنى؟ ثم كان علقة فخلق فسوى؟ فجعل منه الزوجين: الذكر والأنثى؟ أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا المقطع الأخير العميق الإيقاع، يشتمل على لفتات عميقة إلى حقائق كبيرة. ما كان المخاطبون بهذا القرآن يخطرونها على بالهم في ذلك الزمان. وأولى هذه اللفتات تلك اللفتة إلى التقدير والتدبير في حياة الإنسان:

                                                                                                                                                                                                                                      أيحسب الإنسان أن يترك سدى ..

                                                                                                                                                                                                                                      فلقد كانت الحياة في نظر القوم حركة لا علة لها ولا هدف ولا غاية.. أرحام تدفع وقبور تبلع.. وبين هاتين لهو ولعب، وزينة وتفاخر، ومتاع قريب من متاع الحيوان.. فأما أن يكون هناك ناموس، وراءه هدف، [ ص: 3774 ] ووراء الهدف حكمة; وأن يكون قدوم الإنسان إلى هذه الحياة وفق قدر يجري إلى غاية مقدرة، وأن ينتهي إلى حساب وجزاء، وأن تكون رحلته على هذه الأرض ابتلاء ينتهي إلى الحساب والجزاء.. أما هذا التصور الدقيق المتناسق، والشعور بما وراءه من ألوهية قادرة مدبرة حكيمة، تفعل كل شيء بقدر، وتنهي كل شيء إلى نهاية.. أما هذا فكان أبعد شيء عن تصور الناس ومداركهم، في ذلك الزمان.

                                                                                                                                                                                                                                      والذي يميز الإنسان عن الحيوان، هو شعوره باتصال الزمان والأحداث والغايات. وبوجود الهدف والغاية من وجوده الإنساني، ومن الوجود كله من حوله. وارتقاؤه في سلم الإنسانية يتبع نمو شعوره هذا وسعته، ودقة تصوره لوجود الناموس، وارتباط الأحداث والأشياء بهذا الناموس. فلا يعيش عمره لحظة لحظة، ولا حادثة حادثة، بل يرتبط في تصوره الزمان والمكان والماضي والحاضر والمستقبل. ثم يرتبط هذا كله بالوجود الكبير ونواميسه. ثم يرتبط هذا كله بإرادة عليا خالقة مدبرة لا تخلق الناس عبثا ولا تتركهم سدى.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا هو التصور الكبير الذي نقل القرآن الناس إليه منذ ذلك العهد البعيد، نقلة هائلة بالقياس إلى التصورات السائدة إذ ذاك وما تزال هائلة بالقياس إلى سائر التصورات الكونية التي عرفتها الفلسفة قديما وحديثا.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه اللمسة: أيحسب الإنسان أن يترك سدى .. هي إحدى لمسات القرآن التوجيهية للقلب البشري، كي يتلفت ويستحضر الروابط والصلات، والأهداف والغايات، والعلل والأسباب، التي تربط وجوده بالوجود كله، وبالإرادة المدبرة للوجود كله.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي غير تعقيد ولا غموض يأتي بالدلائل الواقعة البسيطة التي تشهد بأن الإنسان لن يترك سدى.. إنها دلائل نشأته الأولى:

                                                                                                                                                                                                                                      ألم يك نطفة من مني يمنى؟ ثم كان علقة فخلق فسوى؟ فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      فما هذا الإنسان؟ مم خلق؟ وكيف كان؟ وكيف صار؟ وكيف قطع رحلته الكبيرة حتى جاء إلى هذا الكوكب؟

                                                                                                                                                                                                                                      ألم يك نطفة صغيرة من الماء، من مني يمنى ويراق؟ ألم تتحول هذه النطفة من خلية واحدة صغيرة إلى علقة ذات وضع خاص في الرحم، تعلق بجدرانه لتعيش وتستمد الغذاء؟ فمن ذا الذي ألهمها هذه الحركة؟ ومن ذا الذي أودعها هذه القدرة؟ ومن ذا الذي وجهها هذا الاتجاه؟

                                                                                                                                                                                                                                      ثم من ذا الذي خلقها بعد ذلك جنينا معتدلا منسق الأعضاء؟ مؤلفا جسمه من ملايين الملايين من الخلايا الحية، وهو في الأصل خلية واحدة مع بويضة؟ والرحلة المديدة التي قطعها من الخلية الواحدة إلى الجنين السوي - وهي أطول بمراحل من رحلته من مولده إلى مماته - والتغيرات التي تحدث في كيانه في الرحلة الجنينية أكثر وأوسع مدى من كل ما يصادفه من الأحداث في رحلته من مولده إلى مماته! فمن ذا الذي قاد هذه الرحلة المديدة، وهو خليقة صغيرة ضعيفة، لا عقل لها ولا مدارك ولا تجارب؟!

                                                                                                                                                                                                                                      ثم في النهاية. من ذا الذي جعل من الخلية الواحدة.. الذكر والأنثى؟ .. أي إرادة كانت لهذه الخلية في أن تكون ذكرا؟ وأي إرادة لتلك في أن تكون أنثى؟ أم من ذا الذي يزعم أنه تدخل فقاد خطواتهما في ظلمات الرحم إلى هذا الاختيار؟!

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3775 ] إنه لا مفر من الإحساس باليد اللطيفة المدبرة التي قادت النطفة المراقة في طريقها الطويل، حتى انتهت بها إلى ذلك المصير.. فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ..

                                                                                                                                                                                                                                      وأمام هذه الحقيقة التي تفرض نفسها فرضا على الحس البشري، يجيء الإيقاع الشامل لجملة من الحقائق التي تعالجها السورة:

                                                                                                                                                                                                                                      أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      بلى! سبحانه! فإنه لقادر على أن يحيي الموتى!

                                                                                                                                                                                                                                      بلى! سبحانه! فإنه لقادر على النشأة الأخرى!

                                                                                                                                                                                                                                      بلى! سبحانه! وما يملك الإنسان إلا أن يخشع أمام هذه الحقيقة التي تفرض نفسها فرضا.

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا تنتهي السورة بهذا الإيقاع الحاسم الجازم، القوي العميق، الذي يملأ الحس ويفيض بحقيقة الوجود الإنساني وما وراءها من تدبير وتقدير..

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية