الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 513 ] الحديث الثاني والعشرون .

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أرأيت إذا صليت المكتوبات ، وصمت رمضان ، وأحللت الحلال ، وحرمت الحرام ، ولم أزد على ذلك شيئا ، أأدخل الجنة ؟ قال : نعم رواه مسلم .

التالي السابق


هذا الحديث خرجه مسلم من رواية أبي الزبير عن جابر ، وزاد في آخره قال : والله لا أزيد على ذلك شيئا . وخرجه أيضا من رواية الأعمش عن أبي صالح وأبي سفيان عن جابر قال : قال النعمان بن قوقل : يا رسول الله ، أرأيت إذا صليت المكتوبة ، وحرمت الحرام ، وأحللت الحلال ، ولم أزد على ذلك شيئا أأدخل الجنة ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : " نعم " .

وقد فسر بعضهم تحليل الحلال باعتقاد حله ، وتحريم الحرام باعتقاد حرمته مع اجتنابه ، ويحتمل أن يراد بتحليل الحلال إتيانه ، ويكون الحلال هاهنا عبارة عما ليس بحرام فيدخل فيه الواجب والمستحب والمباح ، ويكون المعنى أنه يفعل ما ليس بمحرم عليه ، ولا يتعدى ما أبيح له إلى غيره ، ويجتنب المحرمات . وقد روي عن طائفة من السلف ، منهم ابن مسعود وابن عباس في قوله عز وجل : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به [ البقرة : 121 ] ، قالوا : يحلون حلاله ويحرمون حرامه ، ولا يحرفونه عن مواضعه . [ ص: 514 ] والمراد بالتحليل والتحريم : فعل الحلال واجتناب الحرام كما ذكر في هذا الحديث . وقد قال الله في حق الكفار الذين كانوا يغيرون تحريم الشهور الحرم : إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله [ التوبة : 37 ] والمراد : أنهم كانوا يقاتلون في الشهر الحرام عاما ، فيحلونه بذلك ، ويمتنعون من القتال فيه عاما ، فيحرمونه بذلك .

وقال الله عز وجل : ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا [ المائدة : 87 - 88 ] وهذه الآية نزلت بسبب قوم امتنعوا من تناول بعض الطيبات زهدا في الدنيا وتقشفا ، وبعضهم حرم ذلك على نفسه ، إما بيمين حلف بها ، أو بتحريمه على نفسه ، وذلك كله لا يوجب تحريمه في نفس الأمر ، وبعضهم امتنع منه من غير يمين ولا تحريم ، فسمى الجميع تحريما ، حيث قصد الامتناع منه إضرارا بالنفس ، وكفا لها عن شهواتها . ويقال في الأمثال : فلان لا يحلل ولا يحرم ، إذا كان لا يمتنع من فعل حرام ، ولا يقف عند ما أبيح له ، وإن كان يعتقد تحريم الحرام ، فيجعلون من فعل الحرام ولا يتحاشى منه محللا له وإن كان لا يعتقد حله .

وبكل حال ، فهذا الحديث يدل على أن من قام بالواجبات ، وانتهى عن المحرمات دخل الجنة وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى ، أو ما هو قريب منه ، كما خرجه النسائي ، وابن حبان ، والحاكم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ، [ ص: 515 ] ويصوم رمضان ، ويخرج الزكاة ، ويجتنب الكبائر السبع ، إلا فتحت له أبواب الجنة ، يدخل من أيها شاء ثم تلا : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما [ النساء : 31 ] .

وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث أبي أيوب الأنصاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من عبد الله ، لا يشرك به ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وصام رمضان ، واجتنب الكبائر ، فله الجنة - أو دخل الجنة - .

وفي " المسند " عن ابن عباس أن ضمام بن ثعلبة وفد على النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر له الصلوات الخمس ، والصيام ، والزكاة ، والحج ، وشرائع الإسلام كلها ، فلما فرغ قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وسأؤدي هذه الفرائض ، وأجتنب ما نهيتني عنه ، لا أزيد ولا أنقص ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن صدق دخل الجنة وخرجه الطبراني من وجه آخر ، وفي حديثه قال : والخامسة لا أرب لي فيها يعني الفواحش ثم قال : لأعملن بها ، ومن أطاعني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لئن صدق ليدخلن الجنة " .

[ ص: 516 ] وفي " صحيح البخاري " عن أبي أيوب أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أخبرني بعمل يدخلني الجنة ، قال : تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصل الرحم وخرجه مسلم إلا أن عنده أنه قال : أخبرني بعمل يدنيني من الجنة ويباعدني من النار . وعنده في رواية : فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن تمسك بما أمر به ، دخل الجنة " .

وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة أن أعرابيا قال : يا رسول الله ، دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة قال : تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان ، قال : والذي بعثك بالحق ، لا أزيد على هذا شيئا أبدا ولا أنقص منه ، فلما ولى ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا .

وفي " الصحيحين " عن طلحة بن عبيد الله أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس ، فقال : يا رسول الله ، أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة ؟ فقال : الصلوات الخمس ، إلا أن تطوع شيئا فقال : أخبرني بما فرض الله علي من الصيام ؟ فقال : شهر رمضان إلا أن تطوع شيئا فقال : أخبرني بما فرض الله علي من الزكاة ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام ، فقال : والذي أكرمك بالحق ، لا أتطوع شيئا ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفلح إن صدق - أو دخل الجنة إن صدق - ولفظه للبخاري .

[ ص: 517 ] وفي " صحيح مسلم " عن أنس أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بمعناه ، وزاد فيه " حج البيت من استطاع إليه سبيلا " فقال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لئن صدق ليدخلن الجنة " .

ومراد الأعرابي أنه لا يزيد على الصلاة المكتوبة ، والزكاة المفروضة ، وصيام رمضان ، وحج البيت شيئا من التطوع ، ليس مراده أنه لا يعمل بشيء من شرائع الإسلام وواجباته غير ذلك ، وهذه الأحاديث لم يذكر فيها اجتناب المحرمات ، لأن السائل إنما سأله عن الأعمال التي يدخل بها عاملها الجنة .

وخرج الترمذي من حديث أبي أمامة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول : أيها الناس ، اتقوا الله ، وصلوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وأدوا زكاة أموالكم ، وأطيعوا ذا أمركم ، تدخلوا جنة ربكم وقال : حسن صحيح ، وخرجه الإمام أحمد ، وعنده " اعبدوا ربكم " بدل قوله " اتقوا الله " . وخرجه بقي بن مخلد في " مسنده " من وجه آخر ، ولفظ حديثه : " صلوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وحجوا بيتكم ، وأدوا زكاة أموالكم ، طيبة بها أنفسكم ، تدخلوا جنة ربكم " .

وخرج الإمام أحمد بإسناده عن ابن المنتفق ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعرفات ، فقلت : ثنتان أسألك عنهما : ما ينجيني من النار ، وما يدخلني الجنة ؟ فقال : لئن كنت أوجزت في المسألة ، لقد أعظمت وأطولت ، فاعقل عني إذن : اعبد الله لا تشرك به شيئا ، وأقم الصلاة المكتوبة ، وأد الزكاة المفروضة ، وصم [ ص: 518 ] رمضان ، وما تحب أن يفعله بك الناس ، فافعله بهم ، وما تكره أن يأتي إليك الناس ، فذر الناس منه .

وفي رواية له أيضا قال : " اتق الله ، ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتحج البيت ، وتصوم رمضان ، ولم تزد على ذلك " وقيل : إن هذا الصحابي هو وافد بن المنتفق ، واسمه لقيط .

فهذه الأعمال أسباب مقتضية لدخول الجنة ، وقد يكون ارتكاب المحرمات موانع ، ويدل على هذا ما خرجه الإمام أحمد من حديث عمرو بن مرة الجهني ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، شهدت أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، وصليت الخمس ، وأديت زكاة مالي ، وصمت شهر رمضان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا - ونصب أصبعيه - ما لم يعق والديه " .

[ ص: 519 ] وقد ورد ترتب دخول الجنة على فعل بعض هذه الأعمال كالصلاة ، ففي الحديث المشهور : من صلى الصلوات لوقتها ، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة وفي الحديث الصحيح : من صلى البردين دخل الجنة ، وهذا كله من ذكر السبب المقتضي الذي لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه ، وانتفاء موانعه ؛ ويدل هذا على ما خرجه الإمام أحمد عن بشير بن الخصاصية ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه ، فشرط علي شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن أقيم الصلاة ، وأن أوتي الزكاة ، وأن أحج حجة الإسلام ، وأن أصوم رمضان ، وأن أجاهد في سبيل الله ، فقلت : يا رسول الله ، فأما اثنتان فوالله ما أطيقهما : الجهاد والصدقة ، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ، ثم حركها ، وقال : " فلا جهاد ولا صدقة ؟ فبم تدخل الجنة إذا ؟ " قلت : يا رسول الله أبايعك ، فبايعته عليهن كلهن ففي هذا الحديث أنه لا يكفي في دخول الجنة هذه [ ص: 520 ] الخصال بدون الزكاة والجهاد .



وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن ارتكاب بعض الكبائر يمنع دخول الجنة ، كقوله : لا يدخل الجنة قاطع ، وقوله : لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ، وقوله : لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا والأحاديث التي جاءت في منع دخول الجنة بالدين حتى يقضى ، وفي الصحيح : أن المؤمنين إذا جازوا الصراط ، حبسوا على قنطرة يقتص منهم مظالم كانت بينهم في الدنيا .

[ ص: 521 ] وقال بعض السلف : إن الرجل ليحبس على باب الجنة مائة عام بالذنب كان يعمله في الدنيا . فهذه كلها موانع .

ومن هنا يظهر معنى الأحاديث التي جاءت في ترتب دخول الجنة على مجرد التوحيد ، ففي " الصحيحين " عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من عبد قال : لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة ، قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ ! قال : وإن زنى وإن سرق ، قالها ثلاثا ، ثم قال في الرابعة : على رغم أنف أبي ذر فخرج أبو ذر وهو يقول : وإن رغم أنف أبي ذر .

وفيهما عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وأن الجنة حق ، والنار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل .

وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة أو أبي سعيد - بالشك - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك ، فيحجب عن الجنة .

وفيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يوما : من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه ، فبشره بالجنة وفي المعنى أحاديث كثيرة جدا . [ ص: 522 ] وفي " الصحيحين " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما لمعاذ : ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، إلا حرمه الله على النار .

وفيهما عن عتبان بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله قد حرم على النار من قال : لا إله إلا الله ، يبتغي بها وجه الله : .

وقال طائفة من العلماء : إن كلمة التوحيد سبب مقتض لدخول الجنة وللنجاة من النار ، لكن له شروط ، وهي الإتيان بالفرائض ، وموانع وهي إتيان الكبائر . قال الحسن للفرزدق : إن للا إله إلا الله شروطا ، فإياك وقذف المحصنة . وروي عنه أنه قال : هذا العمود ، فأين الطنب ، يعني أن كلمة التوحيد عمود الفسطاط ، ولكن لا يثبت الفسطاط بدون أطنابه ، وهي فعل الواجبات ، وترك المحرمات .

وقيل للحسن : إن ناسا يقولون : من قال : لا إله إلا الله دخل الجنة ، فقال : من قال : لا إله إلا الله ، فأدى حقها وفرضها ، دخل الجنة .

وقيل لوهب بن منبه : أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة ؟ قال : بلى ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان ، فإن جئت بمفتاح له أسنان ، فتح لك ، وإلا لم يفتح لك .

ويشبه هذا ما روي عن ابن عمر أنه سئل عن لا إله إلا الله : هل يضر معها [ ص: 523 ] عمل ، كما لا ينفع مع تركها عمل ؟ فقال ابن عمر : عش ولا تغتر .



وقالت طائفة - منهم الضحاك والزهري - : كان هذا قبل الفرائض والحدود ، فمن هؤلاء من أشار إلى أنها نسخت ، ومنهم من قال : بل ضم إليها شروط زيدت عليها ، وزيادة الشروط هل هي نسخ أم لا ؟ فيه خلاف مشهور بين الأصوليين ، وفي هذا كله نظر ، فإن كثيرا من هذه الأحاديث متأخر بعد الفرائض والحدود .

وقال الثوري : نسختها الفرائض والحدود ، فيحتمل أن يكون مراده ما أراده هؤلاء ، ويحتمل أن يكون مراده أن وجوب الفرائض والحدود تبين بها أن عقوبات الدنيا لا تسقط بمجرد الشهادتين ، فكذلك عقوبات الآخرة ، ومثل هذا البيان وإزالة الإيهام كان السلف يسمونه نسخا ، وليس هو بنسخ في الاصطلاح المشهور .

وقالت طائفة : هذه النصوص المطلقة جاءت مقيدة بأن يقولها بصدق وإخلاص ، وإخلاصها وصدقها يمنع الإصرار على معصية .

وجاء من مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من قال : لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة " قيل : وما إخلاصها ؟ قال : " أن تحجزك عما حرم الله " . وروي ذلك مسندا من وجوه أخر ضعيفة .

[ ص: 524 ] ولعل الحسن أشار بكلامه الذي حكيناه عنه من قبل إلى هذا فإن تحقق القلب بمعنى " لا إله إلا الله " وصدقه فيها ، وإخلاصه بها يقتضي أن يرسخ فيه تأله الله وحده ، إجلالا ، وهيبة ، ومخافة ، ومحبة ، ورجاء ، وتعظيما ، وتوكلا ، ويمتلئ بذلك ، وينتفي عنه تأله ما سواه من المخلوقين ، ومتى كان كذلك ، لم يبق فيه محبة ، ولا إرادة ، ولا طلب لغير ما يريد الله ويحبه ويطلبه ، وينتفي بذلك من القلب جميع أهواء النفوس وإراداتها ، ووساوس الشيطان ، فمن أحب شيئا وأطاعه ، وأحب عليه وأبغض عليه ، فهو إلهه ، فمن كان لا يحب ولا يبغض إلا لله ، ولا يوالي ولا يعادي إلا له ، فالله إلهه حقا ، ومن أحب لهواه ، وأبغض له ، ووالى عليه ، وعادى عليه ، فإلهه هواه ، كما قال تعالى : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه [ الجاثية : 23 ] قال الحسن : هو الذي لا يهوى شيئا إلا ركبه ، وقال قتادة : هو الذي كلما هوى شيئا ركبه ، وكلما اشتهى شيئا ، أتاه لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى . ويروى من حديث أبي أمامة مرفوعا " ما تحت ظل السماء إله يعبد أعظم عند الله من هوى متبع " .

وكذلك من أطاع الشيطان في معصية الله ، فقد عبده ، كما قال عز وجل : ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين [ يس : 60 ] .

فتبين بهذا أنه لا يصح تحقيق معنى قول : لا إله إلا الله إلا لمن لم يكن في قلبه إصرار على محبة ما يكرهه الله ، ولا على إرادة ما لا يريده الله ، ومتى [ ص: 525 ] كان في القلب شيء من ذلك ، كان ذلك نقصا في التوحيد ، وهو نوع من الشرك الخفي . ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى : ألا تشركوا به شيئا [ الأنعام : 151 ] قال : لا تحبوا غيري .

وفي " صحيح الحاكم " عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء ، وأدناه أن تحب على شيء من الجور ، وتبغض على شيء من العدل ، وهل الدين إلا الحب والبغض ؟ قال الله عز وجل : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ آل عمران : 31 ] وهذا نص في أن محبة ما يكرهه الله ، وبغض ما يحبه متابعة للهوى ، والموالاة على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفي .

وخرج ابن أبي الدنيا من حديث أنس مرفوعا : " لا تزال لا إله إلا الله تمنع العباد من سخط الله ، ما لم يؤثروا دنياهم على صفقة دينهم ، فإذا آثروا صفقة دنياهم على دينهم ، ثم قالوا : لا إله إلا الله ردت عليهم ، وقال الله : كذبتم " . [ ص: 526 ] فتبين بهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " من شهد أن لا إله إلا الله صادقا من قلبه حرمه الله على النار " ، وأن من دخل النار من أهل هذه الكلمة ، فلقلة صدقه في قولها ، فإن هذه الكلمة إذا صدقت طهرت من القلب كل ما سوى الله ، فمن صدق في قوله : لا إله إلا الله لم يحب سواه ، ولم يرج إلا إياه ، ولم يخش أحدا إلا الله ، ولم يتوكل إلا على الله ، ولم تبق له بقية من إيثار نفسه وهواه ، ومتى بقي في القلب أثر لسوى الله ، فمن قلة الصدق في قولها .

نار جهنم تنطفئ بنور إيمان الموحدين ، كما في الحديث المشهور " تقول النار للمؤمن : جز يا مؤمن ، فقد أطفأ نورك لهبي " .

وفي " مسند الإمام أحمد " عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها ، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم ، حتى إن للنار ضجيجا من بردهم . [ ص: 527 ] فهذا ميراث ورثه المؤمنون من حال إبراهيم عليه السلام ، فنار المحبة في قلوب المؤمنين تخاف منها نار جهنم . قال الجنيد : قالت النار : يا رب ، لو لم أطعك ، هل كنت تعذبني بشيء هو أشد مني ؟ قال : نعم كنت أسلط عليك ناري الكبرى ، قالت : وهل نار أعظم مني وأشد ؟ قال : نعم نار محبتي أسكنتها قلوب أوليائي المؤمنين وفي هذا يقول بعضهم :


ففي فؤاد المحب نار هوى أحر نار الجحيم أبردها

ويشهد لهذا المعنى حديث معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ، فإن المحتضر لا يكاد يقولها إلا بإخلاص ، وتوبة ، وندم على ما مضى ، وعزم على أن لا يعود إلى مثله ، ورجح هذا القول الخطابي في مصنف له مفرد في التوحيد ، وهو حسن .




الخدمات العلمية