الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى؟ ... إلخ ولكن هناك تناسقا كاملا بين أجزاء السورة، وتسلسلا في ترتيب الحقائق التي تضمنتها بعد هذا المطلع المتقدم. يجعل من السورة كلها وحدة منسقة متماسكة..

                                                                                                                                                                                                                                      اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنها السورة الأولى من هذا القرآن، فهي تبدأ باسم الله. وتوجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أول ما توجه، في أول لحظة من لحظات اتصاله بالملإ الأعلى، وفي أول خطوة من خطواته في طريق الدعوة التي اختير لها.. توجهه إلى أن يقرأ باسم الله: اقرأ باسم ربك ..

                                                                                                                                                                                                                                      وتبدأ من صفات الرب بالصفة التي بها الخلق والبدء: الذي خلق .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم تخصص: خلق الإنسان ومبدأه: خلق الإنسان من علق .. من تلك النقطة الدموية الجامدة العالقة [ ص: 3939 ] بالرحم. من ذلك المنشإ الصغير الساذج التكوين. فتدل على كرم الخالق فوق ما تدل على قدرته. فمن كرمه رفع هذا العلق إلى درجة الإنسان الذي يعلم فيتعلم: اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم ..

                                                                                                                                                                                                                                      وإنها لنقلة بعيدة جدا بين المنشإ والمصير. ولكن الله قادر. ولكن الله كريم. ومن ثم كانت هذه النقلة التي تدير الرؤوس!

                                                                                                                                                                                                                                      وإلى جانب هذه الحقيقة تبرز حقيقة التعليم.. تعليم الرب للإنسان "بالقلم"... لأن القلم كان وما يزال أوسع وأعمق أدوات التعليم أثرا في حياة الإنسان.. ولم تكن هذه الحقيقة إذ ذاك بهذا الوضوح الذي نلمسه الآن ونعرفه في حياة البشرية. ولكن الله - سبحانه - كان يعلم قيمة القلم، فيشير إليه هذه الإشارة في أول لحظة من لحظات الرسالة الأخيرة للبشرية. في أول سورة من سور القرآن الكريم.. هذا مع أن الرسول الذي جاء بها لم يكن كاتبا بالقلم، وما كان ليبرز هذه الحقيقة منذ اللحظة الأولى لو كان هو الذي يقول هذا القرآن. لولا أنه الوحي، ولولا أنها الرسالة!

                                                                                                                                                                                                                                      ثم تبرز مصدر التعليم.. إن مصدره هو الله. منه يستمد الإنسان كل ما علم، وكل ما يعلم. وكل ما يفتح له من أسرار هذا الوجود، ومن أسرار هذه الحياة، ومن أسرار نفسه. فهو من هناك. من ذلك المصدر الواحد، الذي ليس هناك سواه.

                                                                                                                                                                                                                                      وبهذا المقطع الواحد الذي نزل في اللحظة الأولى من اتصال الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالملإ الأعلى، بهذا المقطع وضعت قاعدة التصور الإيماني العريضة..

                                                                                                                                                                                                                                      كل أمر. كل حركة. كل خطوة. كل عمل. باسم الله. وعلى اسم الله. باسم الله تبدأ. وباسم الله تسير. وإلى الله تتجه، وإليه تصير.

                                                                                                                                                                                                                                      والله هو الذي خلق. وهو الذي علم. فمنه البدء والنشأة، ومنه التعليم والمعرفة.. والإنسان يتعلم ما يتعلم، ويعلم ما يعلم.. فمصدر هذا كله هو الله الذي خلق والذي علم.. علم الإنسان ما لم يعلم ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الحقيقة القرآنية الأولى، التي تلقاها قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اللحظة الأولى هي التي ظلت تصرف شعوره، و تصرف لسانه، و تصرف عمله واتجاهه، بعد ذلك طوال حياته. بوصفها قاعدة الإيمان الأولى.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية في كتابه: "زاد المعاد في هدي خير العباد" يلخص هدي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في ذكر الله:

                                                                                                                                                                                                                                      "كان النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق ذكرا لله عز وجل. بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه. وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكرا منه لله، وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله ووعده ووعيده ذكرا منه له، وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وتحميده وتسبيحه ذكرا منه له، وسؤاله ودعاؤه إياه ورغبته ورهبته ذكرا منه له. وسكوته وصمته ذكرا منه له بقلبه. فكان ذاكرا لله في كل أحيانه وعلى جميع أحواله. وكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائما وقاعدا وعلى جنبه، وفي مشيته وركوبه، وسيره ونزوله، وظعنه وإقامته".

                                                                                                                                                                                                                                      "وكان إذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور. وقالت عائشة كان إذا هب من الليل كبر عشرا، وهلل عشرا، ثم قال: اللهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا وضيق يوم القيامة عشرا، ثم يستفتح الصلاة. وقالت أيضا: كان إذا استيقظ من الليل قال: لا إله إلا أنت سبحانك. اللهم أستغفرك [ ص: 3940 ] لذنبي وأسألك رحمتك. اللهم زدني علما، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب "ذكرها أبو داود". وأخبر أن من استيقظ من الليل فقال: "لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" ثم قال: "اللهم اغفر لي"، أو دعاء آخر استجيب له. فإن توضأ وصلى قبلت صلاته" "ذكره البخاري".

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عباس عنه - صلى الله عليه وسلم - ليلة مبيته عنده: إنه لما استيقظ رفع رأسه للسماء، وقال العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عمران.. إن في خلق السماوات والأرض ... إلخ ثم قال.. "اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن. ولك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن. ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق، والساعة حق. اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت. أنت إلهي لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".

                                                                                                                                                                                                                                      "وقد قالت عائشة - رضي الله عنها - كان إذا قام من الليل قال: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم". وربما قالت: كان يفتتح صلاته بذلك".

                                                                                                                                                                                                                                      "وكان إذا أوتر ختم وتره بعد فراغه بقوله: سبحان الله القدوس (ثلاثا) ويمد بالثالثة صوته".

                                                                                                                                                                                                                                      "وكان إذا خرج من بيته يقول: بسم الله توكلت على الله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل، أو يجهل علي (حديث صحيح) ".

                                                                                                                                                                                                                                      وقال - صلى الله عليه وسلم - "من قال إذا خرج من بيته بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله يقال له: هديت وكفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان" (حديث حسن) .

                                                                                                                                                                                                                                      "وقال ابن عباس عنه - ليلة مبيته عنده - : إنه خرج إلى صلاة الفجر وهو يقول: اللهم اجعل في قلبي نورا، واجعل في لساني نورا، واجعل في سمعي نورا، واجعل في بصري نورا، واجعل من خلفي نورا، ومن أمامي نورا، واجعل من فوقي نورا، واجعل من تحتي نورا. اللهم أعظم لي نورا".

                                                                                                                                                                                                                                      وقال فضل بن مرزوق عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما خرج رجل من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي إليك، فإني لم أخرج بطرا ولا أشرا ولا رياء ولا سمعة، وإنما خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. إلا وكل الله به سبعين ألف ملك يستغفرون له، وأقبل الله عليه بوجهه حتى يقضي صلاته".

                                                                                                                                                                                                                                      "وذكر أبو داود عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا دخل المسجد قال أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم. فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم ".

                                                                                                                                                                                                                                      وقال - صلى الله عليه وسلم - : "إذا دخل أحدكم المسجد فليصل وليسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، فإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك".. وذكر عنه أنه كان إذا دخل المسجد صلى على محمد وآله وسلم، ثم يقول: اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك. [ ص: 3941 ] فإذا خرج صلى على محمد وآله وسلم، ثم يقول: "اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي باب فضلك".

                                                                                                                                                                                                                                      وكان إذا صلى الصبح جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس يذكر الله عز وجل. وكان يقول إذا أصبح: "اللهم بك أصبحنا، وبك أمسينا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك النشور". (حديث صحيح) . وكان يقول: "أصبحنا وأصبح الملك لله، والحمد لله، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. رب أسألك خير ما في هذا اليوم وخير ما بعده، وأعوذ بك من شر هذا اليوم، وشر ما بعده رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر، رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر. وإذا أمسى قال: أمسينا وأمسى الملك لله.. إلخ" (ذكره مسلم) .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال له أبو بكر الصديق رضي الله عنه - مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت. قال: قل: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء مليكه ومالكه. أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم. قال: قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك " (حديث صحيح). "ثم ذكر أحاديث كثيرة في هذا الباب".

                                                                                                                                                                                                                                      ... وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا استجد ثوبا سماه باسمه عمامة أو قميصا أو رداء. ثم يقول: "اللهم لك الحمد، أنت كسوتنيه، أسألك خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له". (حديث صحيح).

                                                                                                                                                                                                                                      ويذكر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول إذا انقلب إلى بيته: "الحمد لله الذي كفاني وآواني، والحمد لله الذي أطعمني وسقاني، والحمد لله الذي من علي. أسألك أن تجيرني من النار".

                                                                                                                                                                                                                                      وثبت عنه في الصحيحين أنه كان يقول عند دخوله الخلاء: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث".

                                                                                                                                                                                                                                      وكان إذا خرج من الخلاء قال: "غفرانك" ويذكر عنه أنه كان يقول: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني" (ذكره ابن ماجة) .

                                                                                                                                                                                                                                      وثبت عنه أنه وضع يده في الإناء الذي فيه الماء، ثم قال للصحابة: توضأوا باسم الله.

                                                                                                                                                                                                                                      ويذكر عنه أنه كان يقول "عند رؤية الهلال": "اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ربي وربك الله (قال الترمذي حديث حسن) .

                                                                                                                                                                                                                                      وكان إذا وضع يده في الطعام قال: باسم الله. ويأمر الآكل بالتسمية ويقول: "إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى، فإن نسي أن يذكر اسم الله في أوله فليقل: باسم الله في أوله وآخره" (حديث صحيح) .

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا كانت حياته كلها - صلى الله عليه وسلم - بدقائقها متأثرة بهذا التوجيه الإلهي الذي تلقاه في اللحظة الأولى. وقام به تصوره الإيماني على قاعدته الأصيلة العريقة..

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد كان من مقتضيات تلك الحقيقة: حقيقة أن الله هو الذي خلق. وهو الذي علم. وهو الذي أكرم. أن يعرف الإنسان. ويشكر. ولكن الذي حدث كان غير هذا، وهذا الانحراف هو الذي يتحدث عنه المقطع الثاني للسورة:

                                                                                                                                                                                                                                      كلا! إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى. إن إلى ربك الرجعى ..

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3942 ] إن الذي أعطاه فأغناه هو الله. كما أنه هو الذي خلقه وأكرمه وعلمه. ولكن الإنسان في عمومه - لا يستثنى إلا من يعصمه إيمانه - لا يشكر حين يعطى فيستغني ولا يعرف مصدر النعمة التي أغنته، وهو المصدر الذي أعطاه خلقه وأعطاه علمه.. ثم أعطاه رزقه.. ثم هو يطغى ويفجر، ويبغي ويتكبر، من حيث كان ينبغي أن يعرف ثم يشكر.

                                                                                                                                                                                                                                      وحين تبرز صورة الإنسان الطاغي الذي نسي نشأته وأبطره الغنى، يجيء التعقيب بالتهديد الملفوف: إن إلى ربك الرجعى فأين يذهب هذا الذي طغى واستغنى؟

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الوقت ذاته تبرز قاعدة أخرى من قواعد التصور الإيماني. قاعدة الرجعة إلى الله. الرجعة إليه في كل شيء وفي كل أمر، وفي كل نية، وفي كل حركة، فليس هناك مرجع سواه. إليه يرجع الصالح والطالح. والطائع والعاصي. والمحق والمبطل. والخير والشرير. والغني والفقير.. وإليه يرجع هذا الذي يطغى أن رآه استغنى. ألا إلى الله تصير الأمور.. ومنه النشأة وإليه المصير..

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا تجتمع في المقطعين أطراف التصور الإيماني.. الخلق والنشأة. والتكريم والتعليم.. ثم.. الرجعة والمآب لله وحده بلا شريك: إن إلى ربك الرجعى ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يمضي المقطع الثالث في السورة القصيرة يعرض صورة من صور الطغيان: صورة مستنكرة يعجب منها، ويفظع وقوعها في أسلوب قرآني فريد.

                                                                                                                                                                                                                                      أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى؟ أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى؟ أرأيت إن كذب وتولى؟ ألم يعلم بأن الله يرى؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      والتشنيع والتعجيب واضح في طريقة التعبير، التي تتعذر مجاراتها في لغة الكتابة. ولا تؤدى إلا في أسلوب الخطاب الحي. الذي يعبر باللمسات المتقطعة في خفة وسرعة!

                                                                                                                                                                                                                                      "أرأيت"؟ أرأيت هذا الأمر المستنكر؟ أرأيته يقع؟ أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      أرأيت حين تضم شناعة إلى شناعة؟ وتضاف بشاعة إلى بشاعة؟ أرأيت إن كان هذا الذي يصلي ويتعرض له من ينهاه عن صلاته.. إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى؟ ثم ينهاه من ينهاه. مع أنه على الهدى، آمر بالتقوى؟.

                                                                                                                                                                                                                                      أرأيت إن أضاف إلى الفعلة المستنكرة فعلة أخرى أشد نكرا؟ أرأيت إن كذب وتولى؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      هنا يجيء التهديد الملفوف كما جاء في نهاية المقطع الماضي: ألم يعلم بأن الله يرى؟ يرى تكذيبه وتوليه. ويرى نهيه للعبد المؤمن إذا صلى، وهو على الهدى، آمر بالتقوى. يرى. وللرؤية ما بعدها! ألم يعلم بأن الله يرى! .

                                                                                                                                                                                                                                      وأمام مشهد الطغيان الذي يقف في وجه الدعوة وفي وجه الإيمان، وفي وجه الطاعة، يجيء التهديد الحاسم الرادع الأخير، مكشوفا في هذه المرة لا ملفوفا: كلا. لئن لم ينته لنسفعا بالناصية. ناصية كاذبة خاطئة. فليدع ناديه. سندع الزبانية .

                                                                                                                                                                                                                                      إنه تهديد في إبانه. في اللفظ الشديد العنيف: كلا. لئن لم ينته لنسفعا بالناصية .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3943 ] هكذا "لنسفعا" بهذا اللفظ الشديد المصور بجرسه لمعناه. والسفع: الأخذ بعنف. والناصية: الجبهة. أعلى مكان يرفعه الطاغية المتكبر. مقدم الرأس المتشامخ: إنها ناصية تستحق السفع والصرع: ناصية كاذبة خاطئة ! وإنها للحظة سفع وصرع. فقد يخطر له أن يدعو من يعتز بهم من أهله وصحبه: فليدع ناديه أما نحن فإننا سندع الزبانية الشداد الغلاظ.. والمعركة إذن معروفة المصير!

                                                                                                                                                                                                                                      وفي ضوء هذا المصير المتخيل الرعيب.. تختم السورة بتوجيه المؤمن الطائع إلى الإصرار والثبات على إيمانه وطاعته..

                                                                                                                                                                                                                                      كلا. لا تطعه، واسجد، واقترب.

                                                                                                                                                                                                                                      كلا! لا تطع هذا الطاغي الذي ينهى عن الصلاة والدعوة. واسجد لربك واقترب منه بالطاعة والعبادة. ودع هذا الطاغي. الناهي. دعه للزبانية!

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد وردت بعض الروايات الصحيحة بأن السورة - عدا المقطع الأول منها - قد نزلت في أبي جهل إذ مر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي عند المقام. فقال (يا محمد. ألم أنهك عن هذا؟ وتوعده. فأغلظ له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتهره..) ولعلها هي التي أخذ فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخناقه وقال له: " أولى لك ثم أولى " فقال: يا محمد بأي شيء تهددني؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي ناديا، فأنزل الله: فليدع ناديه ... وقال ابن عباس لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته. ولكن دلالة السورة عامة في كل مؤمن طائع عابد داع إلى الله. وكل طاغ باغ ينهى عن الصلاة، ويتوعد على الطاعة، ويختال بالقوة.. والتوجيه الرباني الأخير: كلا! لا تطعه واسجد واقترب ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا تتناسق مقاطع السورة كلها وتتكامل إيقاعاتها...

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية