الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
اختيار هذا الخط
الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
[ ص: 650 ] وسئل عن nindex.php?page=treesubj&link=27522الذنوب الكبائر المذكورة في القرآن والحديث .
هل لها حد تعرف به ؟ وهل قول من قال : إنها سبع أو سبعة عشر صحيحا ؟ أو قول من قال : إنها ما اتفقت فيها الشرائع - أعني على تحريمها ؟ - أو إنها ما تسد باب المعرفة بالله ؟ أو إنها ما تذهب الأموال والأبدان ؟ أو إنها إنما سميت كبائر بالنسبة والإضافة إلى ما دونها ؟ أو إنها لا تعلم أصلا وأبهمت كليلة القدر ؟ أو يحكي بعضهم أنها إلى التسعين أقرب أو كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة أو أنها ما رتب عليها حد . أو ما توعد عليها بالنار ؟
أمثل الأقوال في هذه المسألة القول المأثور عن ابن عباس وذكره nindex.php?page=showalam&ids=12074أبو عبيد nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل وغيرهما وهو : أن nindex.php?page=treesubj&link=27522الصغيرة ما دون الحدين : حد الدنيا وحد الآخرة .
وهو معنى قول من قال : ما ليس فيها حد في الدنيا .
وهو معنى قول nindex.php?page=treesubj&link=27522القائل : كل ذنب ختم بلعنة أو غضب أو نار فهو من الكبائر .
ومعنى قول القائل : وليس فيها حد في الدنيا ولا وعيد في [ ص: 651 ] الآخرة أي " وعيد خاص " كالوعيد بالنار والغضب واللعنة .
وذلك لأن الوعيد الخاص في الآخرة .
كالعقوبة الخاصة في الدنيا .
فكما أنه يفرق في العقوبات المشروعة للناس بين العقوبات المقدرة بالقطع والقتل وجلد مائة أو ثمانين وبين العقوبات التي ليست بمقدرة : وهي " التعزير " فكذلك يفرق في العقوبات التي يعزر الله بها العباد - في غير أمر العباد بها - بين العقوبات المقدرة : كالغضب واللعنة والنار .
وكذلك كل ذنب توعد صاحبه بأنه لا يدخل الجنة ولا يشم رائحة الجنة وقيل فيه : من فعله فليس منا وأن صاحبه آثم .
فهذه كلها من الكبائر .
كقوله صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=31543لا يدخل الجنة قاطع } " وقوله : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=70249لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر } وقوله : { nindex.php?page=hadith&LINKID=36850من غشنا فليس منا } " .
وقوله : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=601343لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن } " .
وذلك لأن نفي الإيمان وكونه ليس من المؤمنين ليس المراد به ما يقوله المرجئة : إنه ليس من خيارنا ; فإنه لو ترك ذلك لم يلزم أن يكون من خيارهم وليس المراد به ما يقوله الخوارج : إنه صار كافرا .
ولا ما يقوله المعتزلة : من أنه لم يبق معه من الإيمان شيء بل هو [ ص: 653 ] مستحق للخلود في النار لا يخرج منها .
فهذه كلها أقوال باطلة قد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع .
ولكن nindex.php?page=treesubj&link=28851المؤمن المطلق في باب الوعد والوعيد وهو المستحق لدخول الجنة بلا عقاب هو المؤدي للفرائض المجتنب المحارم وهؤلاء هم المؤمنون عند الإطلاق فمن فعل هذه الكبائر لم يكن من هؤلاء المؤمنين إذ هو متعرض للعقوبة على تلك الكبيرة وهذا معنى قول من قال : أراد به نفي حقيقة الإيمان أو نفي كمال الإيمان فإنهم لم يريدوا نفي الكمال المستحب فإن ترك الكمال المستحب لا يوجب الذم والوعيد والفقهاء يقولون : الغسل ينقسم إلى : كامل ومجزئ .
ثم من عدل عن الغسل الكامل إلى المجزئ لم يكن مذموما .
فمن أراد بقوله " نفي كمال الإيمان " أنه نفي الكمال المستحب فقد غلط .
وهو يشبه قول المرجئة ولكن يقتضي نفي الكمال الواجب .
فإنه لا ينفي مسمى الاسم إلا لانتفاء بعض ما يجب في ذلك ; لا لانتفاء بعض مستحباته فيفيد هذا الكلام أن من فعل ذلك فقد ترك الواجب الذي لا يتم الإيمان الواجب إلا به وإن كان معه بعض الإيمان فإن الإيمان يتبعض ويتفاضل .
كما قال صلى الله عليه وسلم " { nindex.php?page=hadith&LINKID=70211يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان } " .
و ( المقصود هنا أن nindex.php?page=treesubj&link=27522نفي الإيمان والجنة أو كونه من المؤمنين لا يكون إلا عن كبيرة .
أما الصغائر فلا تنفي هذا الاسم والحكم عن صاحبها بمجردها .
فيعرف أن هذا النفي لا يكون لترك مستحب ولا لفعل صغيرة بل لفعل كبيرة .
وإنما قلنا : إن هذا الضابط أولى من سائر تلك الضوابط المذكورة لوجوه : ( أحدها : أنه المأثور عن السلف بخلاف تلك الضوابط ; فإنها لا تعرف عن أحد من الصحابة والتابعين والأئمة وإنما قالها بعض من تكلم في شيء من الكلام أو التصوف بغير دليل شرعي .
وأما من قال من السلف : إنها إلى السبعين أقرب منها إلى السبع فهذا لا يخالف ما ذكرناه .
وكل من وعد بغضب الله أو لعنته أو نار أو حرمان جنة أو ما يقتضي ذلك ; فإنه خارج عن هذا الوعد فلا يكون من مجتنبي الكبائر .
وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر إذ لو كان كذلك لم يكن له ذنب يستحق أن يعاقب عليه والمستحق أن يقام عليه الحد له ذنب يستحق العقوبة عليه .
( الثالث أن هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكره الله ورسوله في الذنوب ; فهو حد يتلقى من خطاب الشارع وما سوى ذلك ليس متلقى من كلام الله ورسوله ; بل هو قول رأي القائل وذوقه من غير دليل شرعي والرأي والذوق بدون دليل شرعي لا يجوز .
( الرابع أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين nindex.php?page=treesubj&link=27522الكبائر والصغائر وأما تلك الأمور فلا يمكن الفرق بها بين الكبائر والصغائر ; لأن تلك الصفات لا دليل عليها لأن الفرق بين ما اتفقت فيه الشرائع واختلفت لا يعلم إن لم يمكن وجود عالم بتلك الشرائع على وجهها وهذا غير معلوم لنا .
[ ص: 656 ] وكذلك " ما يسد باب المعرفة " هو من الأمور النسبية والإضافية فقد يسد باب المعرفة عن زيد ما لا يسد عن عمرو وليس لذلك حد محدود .
( الخامس أن تلك الأقوال فاسدة .
فقول من قال : إنها ما اتفقت الشرائع على تحريمه دون ما اختلفت فيه .
يوجب أن تكون الحبة من مال اليتيم ومن السرقة والخيانة والكذبة الواحدة وبعض الإساءات الخفية ونحو ذلك كبيرة .
وأن يكون الفرار من الزحف ليس من الكبائر ; إذ الجهاد لم يجب في كل شريعة وكذلك يقتضي أن يكون التزوج بالمحرمات بالرضاعة والصهر وغيرهما ليس من الكبائر ; لأنه مما لم تتفق عليه الشرائع .
وكذلك إمساك المرأة بعد الطلاق الثلاث ووطئها بعد ذلك .
مع اعتقاد التحريم .
وكذلك من قال : إنها ما تسد باب المعرفة أو ذهاب النفوس والأموال ; يوجب أن يكون القليل من الغضب والخيانة كبيرة .
وأن يكون عقوق الوالدين وقطيعة الرحم وشرب الخمر وأكل الميتة ولحم الخنزير وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ونحو ذلك ليس من الكبائر .
ومن قال : إنها سميت كبائر بالنسبة إلى ما دونها وأن ما عصى الله [ ص: 657 ] به فهو كبيرة فإنه يوجب أن لا تكون الذنوب في نفسها تنقسم إلى كبائر وصغائر .
ومن قال : إنه ما توعد عليه بالنار قد يقال : إن فيه تقصيرا إذ الوعيد قد يكون بالنار وقد يكون بغيرها وقد يقال : إن كل وعيد فلا بد أن يستلزم الوعيد بالنار .
وأما من قال : إنها كل ذنب فيه وعيد فهذا يندرج فيما ذكره السلف ; فإن كل ذنب فيه حد في الدنيا ففيه وعيد من غير عكس فإن الزنا والسرقة وشرب الخمر وقذف المحصنات ونحو ذلك فيها وعيد .