ولما تقدم في الأمر والنواهي وبيان الحكم المرغبة والمرهبة ما لم يبق لمن عنده أدنى تمسك بالدين شيئا من الالتفات إلى المفسدين، بين أن العلة في مدافعتهم وشديد مقاطعتهم أنهم نجس وأن المواضع - التي ظهرت فيها أنوار عظمته وجلالته وأشرقت عليها شموس نبوته ورسالته، ولمعت فيها بروق كبره وجالت صوارم نهيه وأمره - مواضع القدس ومواطن الأنس، من دنا إليها من غير أهلها احترق
[ ص: 429 ] بنارها، وبهرت بصره أشعة أنوارها، فقال مستخلصا مما تقدم ومستنتجا:
nindex.php?page=treesubj&link=1957_25510_28723_30475_32413_3295_34092_34370_28980nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28يا أيها الذين آمنوا أي: أقروا بألسنتهم بالإيمان وهم ممن يستقبح الكذب
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28إنما المشركون أي: العريقون في الشرك بدليل استمرارهم عليه.
ولما كانوا متصفين به، وكانوا لا يغتسلون - ولا يغسلون - ثيابهم من النجاسة، بولغ في وصفهم بها بأن جعلوا عينها فقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28نجس أي: وأنتم تدعون أنكم أبعد الناس عن النجس حسا ومعنى، فيجب أن يقذروا وأن يبعدوا ويحذروا كما يفعل بالشيء النجس لما اشتملوا عليه من خلال الشر واتصفوا به من خصال السوء، وأما أبدانهم فاتفق الفقهاء على طهارتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من أوانيهم ولم ينه عن مؤاكلتهم ولا أمر بالغسل منها ولو كانت نجسة ما طهرها الإسلام. ولما تسبب عن ذلك إبعادهم، قال:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28فلا يقربوا أي: المشركون، وهذا نهي للمسلمين عن تمكينهم من ذلك، عبر عنه بنهيهم مبالغة فيه
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28المسجد الحرام أي: الذي أخرجوكم منه وأنتم أطهر الناس، واستغرق الزمان فأسقط الجار ونبههم على حسن الزمان واتساع الخير فيه بالتعبير بالعام فقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28بعد عامهم وحقق الأمر وأزال اللبس بقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28هذا وهو آخر سنة تسع سنة الوفود مرجعه صلى الله عليه وسلم من غزوة
تبوك، فعبر بقربانه لا بإتيانه بعد التقديم إليهم بأن لا يقبل من مشرك إلا الإسلام أو القتل إشارة إلى
nindex.php?page=treesubj&link=30475إخراج المشركين من جزيرة العرب وأنها لا يجتمع بها دينان لأنها كلها محل النبوة العربية
[ ص: 430 ] وموطن الأسرار الإلهية، فمن كان فيها - ولو في أقصاها - فقد قارب جميع ما فيها، وتكون حينئذ بالنسبة إلى الحرم كأفنية الدور ورحاب المساجد; وفي الصحيح عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله عنه
nindex.php?page=hadith&LINKID=654288أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل nindex.php?page=showalam&ids=1أبا بكر رضي الله عنه أميرا على الحج بعد رجوعه من تبوك ثم أردفه بعلي رضي الله عنه فأمره أن يؤذن ببراءة، قال nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة : فأذن معنا علي يوم النحر في أهل منى ببراءة وأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. وهذه سنة قديمة؛ فقد أمر الله تعالى بني إسرائيل في غير موضع من التوراة بأن لا يبقوا في جميع بلاد
بيت المقدس أحدا من المشركين بخلاف غيرها من البلاد التي يفتحها الله عليهم، منها ما قال المترجم في أواخر السفر الخامس: وإذا تقدمتم إلى قرية أو مدينة لتقاتلوا أهلها ادعوهم إلى الصلح، فإن قبلوه وفتحوا لكم من كان فيها من الرجال يكونوا عبيدا لكم يؤدوا إليكم الخراج، وإن لم يقبلوا الصلح وحاربوكم فحاربوهم وضيقوا عليهم؛ فإن الله ربكم يدفعها إليكم وتظفرون بمن فيها، فإذا ظفرتم بمن فيها فاقتلوا الذكور كلهم بالسيف، كذلك اصنعوا بجميع القرى البعيدة النائية التي ليست من قرى هذه الشعوب فأما قرى هذه الشعوب التي يعطيكم الله ميراثا فلا تبقوا من أهلها أحدا ولكن اقتلوهم قتلا كالذي أمركم الله ربكم لئلا يعلموكم النجاسة
[ ص: 431 ] التي يعملونها لآلهتهم، ومثل ذلك كثير فيها، وقد مضى بعده فيما ذكرته عن التوراة. والله الموفق.
وجملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام: أحدها الحرم، فلا يجوز للكافر أن يدخله بحال لظاهر هذه الآية، الثاني الحجاز وما في حكمه وهو جزيرة العرب، فيدخله الكافر بالإذن ولا يقيم أكثر من مقام السفر ثلاثة أيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=706 "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب". وهي من أقصى
عدن أبين، وهي في الجنوب إلى أطراف الشام وهي في الشمال طولا، ومن جدة وهي أقصى الجزيرة غربا على شاطئ بحر
الهند إلى ريف العراق وهو في المشرق عرضا، والثالث سائر بلاد الإسلام يجوز للكافر الإقامة فيها بذمة وأمان ما شاء، ولكن لا يدخل المساجد إلا بإذن مسلم . ذكر ذلك
nindex.php?page=showalam&ids=13889البغوي ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=12839ابن الفرات في تاريخه عند غزو بختنصر لبني إسرائيل ولأرض العرب: إنما سميت بلاد العرب جزيرة لإحاطة البحار والأنهار بها، فصارت مثل الجزيرة من جزائر البحر، وذلك أن الفرات أقبل من بلاد
الروم وظهر من ناحية قنسرين ثم انحط على الجزيرة وسواد العراق حتى وقع في البحر من ناحية البصرة والأبلة وامتد البحر من ذلك الموضع مطيفا ببلاد العرب، فأتى منه عنق على كاظمة وتعدى
[ ص: 432 ] إلى القطيف وهجر وعمان والشجر، ومال منه عنق إلى
حضرموت وناحية
أبهر وعدن، واستطال ذلك العنق فطعن في
تهامة اليمن ومضى إلى ساحل
جدة، وأقبل النيل في غربي هذا العنق من أعلى بلاد
السودان مستطيلا معارضا للبحر معه حتى وقع في بحر
مصر والشام، ثم أقبل ذلك البحر من
مصر حتى بلغ بلاد
فلسطين فمر
بعسقلان وسواحلها، وأتى على
بيروت ونفذ إلى سواحل
حمص وقنسرين حتى خالط الناحية التي أقبل منها الفرات منحطا على أطراف قنسرين والجزيرة إلى سواد
العراق، وأقبل جبل السراة من قعرة
اليمن حتى بلغ أطراف
الشام فمسته العرب
حجازا؛ لأنه حجز بين الغور ونجد فصار ما خلف ذلك الجبل في غربيه الغور وهو
تهامة، وما دونه في شرقيه
نجدا. انتهى.
ولما كان ما والاها من أرض
الشام ونحوها كله أنهارا أو جداول، جعل كأنه بحر لأنه في حكم شاطئه، ولما كان قوامهم بالمتاجر، وكان قوام المتاجر باجتماعهم في أسواقهم، وكان نفيهم من تلك الأراضي مظنة لخوف انقطاع المتاجر وانعدام الأرباح المفضي إلى الحاجة وكان قد أمر بنفيهم رعاية لأمر الدين، وكان سبحانه عالما بأن
[ ص: 433 ] ذلك يشق على النفوس لما ذكر من العلة ولا سيما وقد قال بعضهم لما قرأ
nindex.php?page=showalam&ids=8علي رضي الله عنه آيات البراءة على أهل الموسم: يا أهل
مكة! ستعلمون ما تلقونه من الشدة بانقطاع السبيل وبعد الحمولات، وعد سبحانه - وهو الواسع العليم - بما يغني عن ذلك؛ لأن من
nindex.php?page=treesubj&link=29497_24625ترك الدنيا لأجل الدين أوصله سبحانه إلى مطلوبه من الدنيا مع ما سعد به من أمر الدين
"من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه" فقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28وإن خفتم أي: بسبب منعهم من قربان المواطن الإلهية
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28عيلة أي: فقرا وحاجة
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28فسوف يغنيكم الله أي: هو ذو الجلال والإكرام
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28من فضله وهو ذو الفضل والطول والقوة والحول.
ولما كان سبحانه الملك الغني القادر القوي الذي لا يجب لأحد عليه شيء وتجب طاعته على كل شيء، نبه على ذلك بقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28إن شاء ولما كان ذلك عندهم مستبعدا، علل تقريبا بقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28إن الله أي: الذي له الإحاطة الكاملة
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28عليم أي: بوجوه المصالح
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28حكيم أي: في تدبير استجلابها وتقدير إدرارها ولقد صدق سبحانه ومن أصدق منه قيلا؛ فإنه أغناهم - بالمغانم التي انتثلها بأيديهم بعد نحو ثلاث سنين من إنزالها من كنوز
كسرى وقيصر - غنى لم يطرق أوهامهم قط، ثم جعل ذلك سببا لاختلاط بعض الطوائف من جميع الناس ببعض لصيرورتهم إخوانا في الدين الذي كان سببا لأن يجتمع
[ ص: 434 ] في سوق
منى وغيره في أيام الحج كل عام من المتاجر مع العرب والعجم ما لا يكون مثله في بقعة من الأرض، والعيلة: الفاقة والافتقار، ومادتها بهذا الترتيب تدور على الحاجة وانسداد وجوه الحلية وقد تقدم أول النساء أنها - لا بقيد ترتيب - تدور تقاليبها الثمانية على الارتفاع ويلزمه الزيادة والميل، ومنه تأتي الحاجة، وبرهن على ذلك في جميع الجزئيات.
وَلَمَّا تَقَدَّمَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّوَاهِي وَبَيَانِ الْحِكَمِ الْمُرَغِّبَةِ وَالْمُرَهِّبَةِ مَا لَمْ يُبْقِ لِمَنْ عِنْدُهُ أَدْنَى تَمَسُّكٍ بِالدِّينِ شَيْئًا مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمُفْسِدِينَ، بَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي مُدَافَعَتِهِمْ وَشَدِيدِ مُقَاطَعَتِهِمْ أَنَّهُمْ نَجَسٌ وَأَنَّ الْمَوَاضِعَ - الَّتِي ظَهَرَتْ فِيهَا أَنْوَارُ عَظَمَتِهِ وَجَلَالَتِهِ وَأَشْرَقَتْ عَلَيْهَا شُمُوسُ نَبُّوتِهِ وَرِسَالَتِهِ، وَلَمَعَتْ فِيهَا بُرُوقُ كِبْرِهِ وَجَالَتْ صَوَارِمُ نَهْيِهِ وَأَمْرِهِ - مَوَاضِعُ الْقُدْسِ وَمُوَاطِنُ الْأُنْسِ، مَنْ دَنَا إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا احْتَرَقَ
[ ص: 429 ] بِنَارِهَا، وَبَهَرَتْ بَصَرَهُ أَشِعَّةُ أَنْوَارِهَا، فَقَالَ مُسْتَخْلِصًا مِمَّا تَقَدَّمَ وَمُسْتَنْتِجًا:
nindex.php?page=treesubj&link=1957_25510_28723_30475_32413_3295_34092_34370_28980nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ: أَقَرُّوا بِأَلْسِنَتِهِمْ بِالْإِيمَانِ وَهُمْ مِمَّنْ يَسْتَقْبِحُ الْكَذِبَ
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ أَيِ: الْعَرِيقُونَ فِي الشِّرْكِ بِدَلِيلِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَيْهِ.
وَلَمَّا كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِهِ، وَكَانُوا لَا يَغْتَسِلُونَ - وَلَا يَغْسِلُونَ - ثِيَابَهُمْ مِنَ النَّجَاسَةِ، بُولِغَ فِي وَصْفِهِمْ بِهَا بِأَنْ جُعِلُوا عَيْنَهَا فَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28نَجَسٌ أَيْ: وَأَنْتُمْ تَدَّعُونَ أَنَّكُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنِ النَّجَسِ حِسًّا وَمَعْنًى، فَيَجِبُ أَنْ يُقْذَرُوا وَأَنْ يُبْعَدُوا وَيُحْذَرُوا كَمَا يُفْعَلُ بِالشَّيْءِ النَّجِسِ لِمَا اشْتَمَلُوا عَلَيْهِ مِنْ خِلَالِ الشَّرِّ وَاتَّصَفُوا بِهِ مِنْ خِصَالِ السُّوءِ، وَأَمَّا أَبْدَانُهُمْ فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَهَارَتِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ مِنْ أَوَانِيهِمْ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ مُؤَاكَلَتِهِمْ وَلَا أَمَرَ بِالْغَسْلِ مِنْهَا وَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً مَا طَهَّرَهَا الْإِسْلَامُ. وَلَمَّا تَسَبَّبَ عَنْ ذَلِكَ إِبْعَادُهُمْ، قَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28فَلا يَقْرَبُوا أَيِ: الْمُشْرِكُونَ، وَهَذَا نَهْيٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَنْ تَمْكِينِهِمْ مِنْ ذَلِكَ، عَبَّرَ عَنْهُ بِنَهْيِهِمْ مُبَالَغَةً فِيهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَيِ: الَّذِي أَخْرَجُوكُمْ مِنْهُ وَأَنْتُمْ أَطْهَرُ النَّاسِ، وَاسْتَغْرَقَ الزَّمَانَ فَأَسْقَطَ الْجَارَّ وَنَبَّهَهُمْ عَلَى حُسْنِ الزَّمَانِ وَاتِّسَاعِ الْخَيْرِ فِيهِ بِالتَّعْبِيرِ بِالْعَامِّ فَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28بَعْدَ عَامِهِمْ وَحَقَّقَ الْأَمْرَ وَأَزَالَ اللَّبْسَ بِقَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28هَذَا وَهُوَ آخِرُ سِنَةِ تِسْعٍ سَنَةِ الْوُفُودِ مَرْجِعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ
تَبُوكَ، فَعَبَّرَ بِقُرْبَانِهِ لَا بِإِتْيَانِهِ بَعْدَ التَّقْدِيمِ إِلَيْهِمْ بِأَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْ مُشْرِكٍ إِلَّا الْإِسْلَامُ أَوِ الْقَتْلُ إِشَارَةً إِلَى
nindex.php?page=treesubj&link=30475إِخْرَاجِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَأَنَّهَا لَا يَجْتَمِعُ بِهَا دَيْنَانِ لِأَنَّهَا كُلَّهَا مَحَلُّ النُّبُوَّةِ الْعَرَبِيَّةِ
[ ص: 430 ] وَمَوْطِنُ الْأَسْرَارِ الْإِلَهِيَّةِ، فَمَنْ كَانَ فِيهَا - وَلَوْ فِي أَقْصَاهَا - فَقَدْ قَارَبَ جَمِيعَ مَا فِيهَا، وَتَكُونُ حِينَئِذٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَرَمِ كَأَفْنِيَةِ الدُّورِ وَرِحَابِ الْمَسَاجِدِ; وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
nindex.php?page=hadith&LINKID=654288أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ nindex.php?page=showalam&ids=1أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ تَبُوكَ ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةَ، قَالَ nindex.php?page=showalam&ids=3أَبُو هُرَيْرَةَ : فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ يَوْمَ النَّحْرِ فِي أَهْلِ مِنًى بِبَرَاءَةَ وَأَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. وَهَذِهِ سُنَّةٌ قَدِيمَةٌ؛ فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ التَّوْرَاةِ بِأَنْ لَا يُبْقُوا فِي جَمِيعِ بِلَادِ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَحَدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي يَفْتَحُهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، مِنْهَا مَا قَالَ الْمُتَرْجِمُ فِي أَوَاخِرِ السِّفْرِ الْخَامِسِ: وَإِذَا تَقَدَّمْتُمْ إِلَى قَرْيَةٍ أَوْ مَدِينَةٍ لِتُقَاتِلُوا أَهْلَهَا ادْعُوهُمْ إِلَى الصُّلْحِ، فَإِنْ قَبِلُوهُ وَفَتَحُوا لَكُمْ مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الرِّجَالِ يَكُونُوا عَبِيدًا لَكُمْ يُؤَدُّوا إِلَيْكُمُ الْخَرَاجَ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلُوا الصُّلْحَ وَحَارَبُوكُمْ فَحَارِبُوهُمْ وَضَيِّقُوا عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ رَبَّكُمْ يَدْفَعُهَا إِلَيْكُمْ وَتَظْفَرُونَ بِمَنْ فِيهَا، فَإِذَا ظَفِرْتُمْ بِمَنْ فِيهَا فَاقْتُلُوا الذُّكُورَ كُلَّهُمْ بِالسَّيْفِ، كَذَلِكَ اصْنَعُوا بِجَمِيعِ الْقُرَى الْبَعِيدَةِ النَّائِيَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ قُرَى هَذِهِ الشُّعُوبِ فَأَمَّا قُرَى هَذِهِ الشُّعُوبِ الَّتِي يُعْطِيكُمُ اللَّهُ مِيرَاثًا فَلَا تُبْقُوا مِنْ أَهْلِهَا أَحَدًا وَلَكِنِ اقْتُلُوهُمْ قَتْلًا كَالَّذِي أَمَرَكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لِئَلَّا يُعَلِّمُوكُمُ النَّجَاسَةَ
[ ص: 431 ] الَّتِي يَعْمَلُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ، وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِيهَا، وَقَدْ مَضَى بَعْدَهُ فِيمَا ذَكَرْتُهُ عَنِ التَّوْرَاةِ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
وَجُمْلَةُ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا الْحَرَمُ، فَلَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ يَدْخُلَهُ بِحَالٍ لِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، الثَّانِي الْحِجَازُ وَمَا فِي حُكْمِهِ وَهُوَ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ، فَيَدْخُلُهُ الْكَافِرُ بِالْإِذْنِ وَلَا يُقِيمُ أَكْثَرَ مِنْ مَقَامِ السَّفَرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
nindex.php?page=hadith&LINKID=706 "أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ". وَهِيَ مِنْ أَقْصَى
عَدَنِ أَبْيَنَ، وَهِيَ فِي الْجَنُوبِ إِلَى أَطْرَافِ الشَّامِ وَهِيَ فِي الشَّمَالِ طُولًا، وَمِنْ جُدَّةَ وَهِيَ أَقْصَى الْجَزِيرَةِ غَرْبًا عَلَى شَاطِئِ بَحْرِ
الْهِنْدِ إِلَى رِيفِ الْعِرَاقِ وَهُوَ فِي الْمَشْرِقِ عَرْضًا، وَالثَّالِثُ سَائِرُ بِلَادِ الْإِسْلَامِ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ الْإِقَامَةُ فِيهَا بِذِمَّةٍ وَأَمَانٍ مَا شَاءَ، وَلَكِنْ لَا يَدْخُلُ الْمَسَاجِدَ إِلَّا بِإِذْنِ مُسْلِمٍ . ذَكَرَ ذَلِكَ
nindex.php?page=showalam&ids=13889الْبَغَوِيُّ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12839ابْنُ الْفُرَاتِ فِي تَارِيخِهِ عِنْدَ غَزْوِ بُخْتَنَصَّرَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَلِأَرْضِ الْعَرَبِ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ بِلَادُ الْعَرَبِ جَزِيرَةً لِإِحَاطَةِ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ بِهَا، فَصَارَتْ مِثْلَ الْجَزِيرَةِ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفُرَاتَ أَقْبَلَ مِنْ بِلَادِ
الرُّومِ وَظَهَرَ مِنْ نَاحِيَةِ قَنْسَرِينَ ثُمَّ انْحَطَّ عَلَى الْجَزِيرَةِ وَسَوَادِ الْعِرَاقِ حَتَّى وَقَعَ فِي الْبَحْرِ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَصْرَةِ وَالْأُبُلَّةِ وَامْتَدَّ الْبَحْرُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مُطِيفًا بِبِلَادِ الْعَرَبِ، فَأَتَى مِنْهُ عُنُقٌ عَلَى كَاظِمَةَ وَتَعَدَّى
[ ص: 432 ] إِلَى الْقَطِيفِ وَهَجَرَ وَعُمَانَ وَالشَّجَرِ، وَمَالَ مِنْهُ عُنُقٌ إِلَى
حَضْرَمَوْتَ وَنَاحِيَةَ
أَبْهَرَ وَعَدَنَ، وَاسْتَطَالَ ذَلِكَ الْعُنُقُ فَطَعَنَ فِي
تِهَامَةِ الْيَمَنِ وَمَضَى إِلَى سَاحِلِ
جُدَّةَ، وَأَقْبَلَ النِّيلُ فِي غَرْبِيِّ هَذَا الْعُنُقِ مِنْ أَعْلَى بِلَادِ
السُّودَانِ مُسْتَطِيلًا مُعَارِضًا لِلْبَحْرِ مَعَهُ حَتَّى وَقَعَ فِي بَحْرِ
مِصْرَ وَالشَّامِ، ثُمَّ أَقْبَلَ ذَلِكَ الْبَحْرُ مِنْ
مِصْرَ حَتَّى بَلَغَ بِلَادَ
فِلَسْطِينَ فَمَرَّ
بِعَسْقَلَانَ وَسَوَاحِلِهَا، وَأَتَى عَلَى
بَيْرُوتَ وَنَفَذَ إِلَى سَوَاحِلِ
حِمْصَ وَقَنْسَرِينَ حَتَّى خَالَطَ النَّاحِيَةَ الَّتِي أَقْبَلَ مِنْهَا الْفُرَاتُ مُنْحَطًّا عَلَى أَطْرَافِ قَنْسَرِينَ وَالْجَزِيرَةِ إِلَى سَوَادِ
الْعِرَاقِ، وَأَقْبَلَ جَبَلُ السَّرَاةِ مِنْ قَعْرَةِ
الْيَمَنِ حَتَّى بَلَغَ أَطْرَافَ
الشَّامِ فَمَسَّتْهُ الْعَرَبُ
حِجَازًا؛ لِأَنَّهُ حَجَزَ بَيْنَ الْغَوْرِ وَنَجْدٍ فَصَارَ مَا خَلْفَ ذَلِكَ الْجَبَلِ فِي غَرْبِيِّهِ الْغَوْرَ وَهُوَ
تِهَامَةُ، وَمَا دُونَهُ فِي شَرْقِيِّهِ
نَجْدًا. انْتَهَى.
وَلَمَّا كَانَ مَا وَالَاهَا مِنْ أَرْضِ
الشَّامِ وَنَحْوِهَا كُلُّهُ أَنْهَارًا أَوْ جَدَاوِلَ، جُعِلَ كَأَنَّهُ بَحْرٌ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ شَاطِئِهِ، وَلَمَّا كَانَ قَوَامُهُمْ بِالْمَتَاجِرِ، وَكَانَ قَوَامُ الْمَتَاجِرِ بِاجْتِمَاعِهِمْ فِي أَسْوَاقِهِمْ، وَكَانَ نَفْيُهُمْ مِنْ تِلْكَ الْأَرَاضِي مَظِنَّةً لِخَوْفِ انْقِطَاعِ الْمَتَاجِرِ وَانْعِدَامِ الْأَرْبَاحِ الْمُفْضِي إِلَى الْحَاجَةِ وَكَانَ قَدْ أَمَرَ بِنَفْيِهِمْ رِعَايَةً لِأَمْرِ الدِّينِ، وَكَانَ سُبْحَانَهُ عَالِمًا بِأَنَّ
[ ص: 433 ] ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ لِمَا ذُكِرَ مِنَ الْعِلَّةِ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ لَمَّا قَرَأَ
nindex.php?page=showalam&ids=8عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ آيَاتِ الْبَرَاءَةِ عَلَى أَهْلِ الْمَوْسِمِ: يَا أَهْلَ
مَكَّةَ! سَتَعْلَمُونَ مَا تَلْقَوْنَهُ مِنَ الشِّدَّةِ بِانْقِطَاعِ السَّبِيلِ وَبُعْدِ الْحُمُولَاتِ، وَعَدَ سُبْحَانَهُ - وَهُوَ الْوَاسِعُ الْعَلِيمُ - بِمَا يُغْنِي عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=29497_24625تَرَكَ الدُّنْيَا لِأَجْلِ الدِّينِ أَوْصَلَهُ سُبْحَانَهُ إِلَى مَطْلُوبِهِ مِنَ الدُّنْيَا مَعَ مَا سَعِدَ بِهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ
"مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ" فَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28وَإِنْ خِفْتُمْ أَيْ: بِسَبَبِ مَنْعِهِمْ مِنْ قُرْبَانِ الْمَوَاطِنِ الْإِلَهِيَّةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28عَيْلَةً أَيْ: فَقْرًا وَحَاجَةً
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ أَيْ: هُوَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28مِنْ فَضْلِهِ وَهُوَ ذُو الْفَضْلِ وَالطَّوْلِ وَالْقُوَّةِ وَالْحَوْلِ.
وَلَمَّا كَانَ سُبْحَانَهُ الْمَلِكَ الْغَنِيَّ الْقَادِرَ الْقَوِيَّ الَّذِي لَا يَجِبُ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَتَجِبُ طَاعَتُهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28إِنْ شَاءَ وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مُسْتَبْعَدًا، عَلَّلَ تَقْرِيبًا بِقَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28إِنَّ اللَّهَ أَيِ: الَّذِي لَهُ الْإِحَاطَةُ الْكَامِلَةُ
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28عَلِيمٌ أَيْ: بِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28حَكِيمٌ أَيْ: فِي تَدْبِيرِ اسْتِجْلَابِهَا وَتَقْدِيرِ إِدْرَارِهَا وَلَقَدْ صَدَقَ سُبْحَانَهُ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْهُ قِيلًا؛ فَإِنَّهُ أَغْنَاهُمْ - بِالْمَغَانِمِ الَّتِي انْتَثَلَهَا بِأَيْدِيهِمْ بَعْدَ نَحْوِ ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ إِنْزَالِهَا مِنْ كُنُوزِ
كِسْرَى وَقَيْصَرَ - غِنًى لَمْ يَطْرُقْ أَوْهَامَهُمْ قَطُّ، ثُمَّ جَعَلَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاخْتِلَاطِ بَعْضِ الطَّوَائِفِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ بِبَعْضٍ لِصَيْرُورَتِهِمْ إِخْوَانًا فِي الدِّينِ الَّذِي كَانَ سَبَبًا لِأَنْ يَجْتَمِعَ
[ ص: 434 ] فِي سُوقِ
مِنًى وَغَيْرِهِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ كُلَّ عَامٍ مِنَ الْمَتَاجِرِ مَعَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ مَا لَا يَكُونُ مِثْلُهُ فِي بُقْعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْعَيْلَةُ: الْفَاقَةُ وَالِافْتِقَارُ، وَمَادَّتُهَا بِهَذَا التَّرْتِيبِ تَدُورُ عَلَى الْحَاجَةِ وَانْسِدَادِ وُجُوهِ الْحِلْيَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّلَ النِّسَاءِ أَنَّهَا - لَا بِقَيْدِ تَرْتِيبٍ - تَدُورُ تَقَالِيبُهَا الثَّمَانِيَةُ عَلَى الِارْتِفَاعِ وَيَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ وَالْمَيْلُ، وَمِنْهُ تَأْتِي الْحَاجَةُ، وَبَرْهَنَ عَلَى ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ.