الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وأعظم من ذلك أنه بين الفرق بين الخالق والمخلوق وأن المخلوق لا يجوز أن يسوي بين الخالق والمخلوق في شيء فيجعل المخلوق ندا للخالق قال تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } وقال تعالى : { هل تعلم له سميا } { ولم يكن له كفوا أحد } { ليس كمثله شيء } وضرب الأمثال في القرآن على من لم يفرق ; بل عدل بربه وسوى بينه وبين خلقه ; كما قالوا - وهم في النار يصطرخون فيها - : { تالله إن كنا لفي ضلال مبين } { إذ نسويكم برب العالمين } وقال تعالى : { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم } { والله يعلم ما تسرون وما تعلنون } { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون } { أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون } . فهو سبحانه الخالق العليم الحق الحي الذي لا يموت ومن سواه لا يخلق شيئا كما قال : { إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب } { ما قدروا الله حق قدره } . وهذا مثل ضربه الله ; فإن الذباب من أصغر الموجودات وكل من يدعى من دون الله لا يخلقون ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه . فإذا تبين أنهم لا يخلقون ذبابا ولا يقدرون على انتزاع ما يسلبهم فهم عن خلق غيره وعن مغالبته أعجز وأعجز : و " المثل " هو الأصل والنظير المشبه به كما قال : { ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون } أي لما جعلوه نظيرا قاسوا عليه آلهتهم وقالوا إذا كان قد عبد وهو لا يعذب فكذلك آلهتنا فضربوه مثلا لآلهتهم وجعلوا يصدون أي يضجون ويعجبون منه احتجاجا به على الرسول والفرق بينه وبين آلهتهم ظاهر كما بينه في قوله تعالى { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } وقال في فرعون : { فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين } أي مثلا يعتبر به ويقاس عليه غيره فمن عمل بمثل عمله جوزي بجزائه ; ليتعظ الناس به فلا يعمل بمثل عمله .

                وقال تعالى : { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم } وهو ما ذكره من أحوال الأمم الماضية التي يعتبر [ ص: 16 ] بها ويقاس عليها أحوال الأمم المستقبلة كما قال : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } فمن كان من أهل الإيمان قيس بهم وعلم أن الله يسعده في الدنيا والآخرة ومن كان من أهل الكفر قيس بهم وعلم أن الله يشقيه في الدنيا والآخرة كما قال في حق هؤلاء : { أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر } وقد قال : { قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } وقال في حق المؤمنين : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم } وقال : { وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } { فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين } وقال في قصة أيوب : { رحمة من عندنا وذكرى للعابدين } { رحمة منا وذكرى لأولي الألباب } وقال : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } وقال : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب } وقال : { وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } . فلفظ " المثل " يراد به النظير الذي يقاس عليه ويعتبر به ويراد [ ص: 17 ] به مجموع القياس قال سبحانه : { وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم } أي لا أحد يحييها وهي رميم . فمثل الخالق بالمخلوق في هذا النفي فجعل هذا مثل هذا لا يقدر على إحيائها سواء نظمه في قياس تمثيل أو قياس شمول كما قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين أن معنى القياسين قياس الشمول وقياس التمثيل [ واحد ] - والمثل المضروب المذكور في القرآن - فإذا قلت : النبيذ مسكر وكل مسكر حرام وأقمت الدليل على المقدمة الكبرى بقوله صلى الله عليه وسلم { كل مسكر حرام } فهو كقوله صلى الله عليه وسلم قياسا على الخمر ; لأن الخمر إنما حرمت لأجل الإسكار وهو موجود في النبيذ . فقوله : { ضرب مثل فاستمعوا له } جعل ما هو من أصغر المخلوقات مثلا ونظيرا يعتبر به فإذا كان أدون خلق الله لا يقدرون على خلقه ولا منازعته فلا يقدرون على خلق ما سواه فيعلم بها من عظمة الخالق وأن كل ما يعبدون من دون الله في السماء والأرض لا يقدرون على ما هو أصغر مخلوقاته .

                وقد قيل : إنهم جعلوا آلهتهم مثلا لله فاستمعوا لذكرها ; وهذا لأنهم لم يفقهوا المثل الذي ضربه الله جعلوا المشركين هم الذين ضربوا هذا المثل . ومثل هذا في القرآن قد ضربه الله ليبين أنه لا يقاس المخلوق بالخالق ويجعل له ندا ومثلا كقوله : { قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون } { فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون } { كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون } { قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون { { قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون } { وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون } . ولما قرر الوحدانية قرر النبوة كذلك فقال : { وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين } { أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله } وهؤلاء مثلوا المخلوق بالخالق وهذا من تكذيبهم إياه ولم يكن المشركون يسوون بين آلهتهم وبين الله في كل شيء بل كانوا يؤمنون بأن الله هو الخالق المالك لهم وهم مخلوقون مملوكون له ولكن كانوا يسوون بينه وبينها في المحبة والتعظيم والدعاء والعبادة والنذر لها ونحو ذلك مما يخص به الرب [ ص: 19 ] فمن عدل بالله غيره في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى فهو مشرك ; بخلاف من لا يعدل به ولكن يذنب مع اعترافه بأن الله ربه وحده وخضوعه له خوفا من عقوبة الذنب فهذا يفرق بينه وبين من لا يعترف بتحريم ذلك .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية