الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولقد خلقنا الإنسان ) الآية ، لما ذكر تعالى أن المتصفين بتلك الأوصاف الجليلة هم يرثون الفردوس فتضمن ذلك المعاد الأخروي ، ذكر النشأة الأولى ليستدل بها على صحة النشأة الآخرة . وقال ابن عطية : هذا ابتداء كلام ، والواو في أوله عاطفة جملة كلام على جملة ، وإن تباينت في المعاني ، انتهى . وقد بينا المناسبة بينهما ولم تتباين في المعاني من جميع الجهات . و ( الإنسان ) هنا . قال [ ص: 398 ] قتادة وغيره ورواه عن سلمان وابن عباس آدم ; لأنه انسل من الطين . ( ثم جعلناه ) عائد على ابن آدم ، وإن كان لم يذكر لشهرة الأمر وأن المعنى لا يصلح إلا له ونظيره . ( حتى توارت بالحجاب ) أو على حذف مضاف أي ثم جعلنا نسله . وعن ابن عباس أيضا أن ( الإنسان ) ابن آدم ، و ( سلالة من طين ) صفوة الماء يعني المني وهو اسم جنس ، والطين يراد به آدم إذ كانت نشأته من الطين كما سمي عرق الثرى أو جعل من الطين لكونه سلالة من أبويه ، وهما متغذيان بما يكون من الطين . وقال الزمخشري : خلق جوهر الإنسان أولا طينا ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة ، انتهى . فجعل الإنسان جنسا باعتبار حالتيه لا باعتبار كل مردود منه ، و ( من ) الأولى لابتداء الغاية ، و ( من ) الثانية ، قال الزمخشري : للبيان ، كقوله ( من الأوثان ) ، انتهى . ولا تكون للبيان إلا على تقدير أن تكون السلالة هي الطين ، أما إذا قلنا : إنه ما انسل من الطين فتكون لابتداء الغاية . والقرار مكان الاستقرار ، والمراد هنا الرحم . والمكين المتمكن وصف القرار به لتمكنه في نفسه بحيث لا يعرض له اختلال ، أو لتمكن من يحل فيه فوصف بذلك على سبيل المجاز ، كقوله طريق سائر لكونه يسار فيه ، وتقدم تفسير النطفة والعلقة والمضغة .

وقرأ الجمهور عظاما و ( العظام ) بالجمع فيهما . وقرأ ابن عامر وأبو بكر ، عن عاصم وأبان والفضل والحسن ، وقتادة أيضا والأعرج والأعمش ومجاهد وابن محيصن بإفراد الأول وجمع الثاني . وقرأ أبو رجاء وإبراهيم بن أبي بكر ومجاهد أيضا بجمع الأول وإفراد الثاني ، فالإفراد يراد به الجنس . وقال الزمخشري : وضع الواحد موضع الجمع لزوال اللبس ; لأن الإنسان ذو عظام كثيرة ، انتهى . وهذا لا يجوز عند سيبويه وأصحابنا إلا في الضرورة ، وأنشدوا :


كلوا في بعض بطنكم تعفوا



ومعلوم أن هذا لا يلبس لأنهم كلهم ليس لهم بطن واحد ، ومع هذا خصوا مجيئه بالضرورة . ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال ابن عباس والشعبي وأبو العالية والضحاك وابن زيد : هو نفخ الروح فيه . وقال ابن عباس أيضا : خروجه إلى الدنيا . وقالت فرقة : نبات شعره . وقال مجاهد : كمال شبابه . وقال ابن عباس أيضا تصرفه في أمور الدنيا . قال ابن عطية : وهذا التخصيص لا وجه له وإنما هو عام في هذا وغيره من وجود النطق والإدراك ، وأول رتبه من كونه آخر نفخ الروح ، وآخره تحصيله المعقولات إلى أن يموت ، انتهى . ملخصا وهو قريب مما رواه العوفي ، عن ابن عباس ، ويدل عليه قوله بعد ذلك : ( ثم إنكم بعد ذلك لميتون ) .

وقال الزمخشري ما ملخصه : ( خلقا آخر ) مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها ; حيث جعله حيوانا ناطقا سميعا بصيرا ، وأودع كل عضو وكل جزء منه عجائب وغرائب لا تدرك بوصف ولا تبلغ بشرح ، وقد احتج أبو حنيفة بقوله : ( خلقا آخر ) على أن غاصب بيضة أفرخت عنده يضمن البيضة ولا يرد الفرخ . وقال ( أنشأناه ) جعل إنشاء الروح فيه وإتمام خلقه إنشاء له . قيل : وفي هذا رد على النظام في زعمه أن الإنسان هو الروح فقط ، وقد بين تعالى أنه مركب من هذه الأشياء ورد على الفلاسفة في زعمهم أن الإنسان شيء لا ينقسم ، و " تبارك " فعل ماض لا يتصرف ، ومعناه تعالى وتقدس ، و ( أحسن الخالقين ) أفعل التفضيل ، والخلاف فيها إذا أضيفت إلى معرفة : هل إضافتها محضة أم غير محضة ؟ فمن قال محضة أعرب ( أحسن ) صفة ، ومن قال غير محضة أعربه بدلا . وقيل : خبر مبتدأ محذوف تقديره هو أحسن الخالقين ، ومعنى ( الخالقين ) المقدرين ، وهو وصف يطلق على غير الله تعالى كما قال زهير :


ولأنت تفري ما خلقت وبعض     القوم يخلق ثم لا يفري



قال الأعلم : هذا مثل ضربه يعني زهيرا ، والخالق الذي لا يقدر الأديم ويهيئه لأن يقطعه ويخرزه [ ص: 399 ] والفري القطع . والمعنى أنك إذا تهيأت لأمر مضيت له وأنفذته ولم تعجز عنه . وقال ابن عطية : معناه الصانعين يقال لمن صنع شيئا خلقه ، وأنشد بيت زهير . قال : ولا تنفى هذه اللفظة عن البشر في معنى الصنع إنما هي منفية بمعنى الاختراع . وقال ابن جريج : قال ( الخالقين ) ; لأنه أذن لعيسى في أن يخلق وتمييز أفعل التفضيل محذوف لدلالة الخالقين عليه ، أي ( أحسن الخالقين ) خلقا أي المقدرين تقديرا . وروي أن عمر لما سمع ( ولقد خلقنا الإنسان ) إلى آخره قال : ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) ، فنزلت . وروي أن قائل ذلك معاذ . وقيل : عبد الله بن أبي سرح ، وكانت سبب ارتداده ، ثم أسلم وحسن إسلامه .

وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة وابن محيصن " لمائتون " بالألف ، يريد حدوث الصفة ، فيقال أنت مائت عن قليل وميت ، ولا يقال مائت للذي قد مات . قال الفراء : إنما يقال في الاستقبال فقط ، وكذا قال ابن مالك ، وإذا قصد استقبال المصوغة من ثلاثي على غير فاعل ردت إليه ما لم يقدر الوقوع ، يعني إنه لا يقال لمن مات مائت . وقال الزمخشري : والفرق بين الميت والمائت أن الميت كالحي صفة ثابتة ، وأما المائت فيدل على الحدوث ، تقول : زيد مائت الآن ومائت غدا كقولك : يموت ، ونحوها ضيق وضائق في قوله : ( وضائق به صدرك ) ، انتهى . والإشارة بقوله بعد ذلك إلى هذا التطوير والإنشاء ( خلقا آخر ) أي وانقضاء مدة حياتكم .

( ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ) ونبه تعالى على عظيم قدرته بالاختراع أولا ، ثم بالإعدام ، ثم بالإيجاد ، وذكره الموت والبعث لا يدل على انتفاء الحياة في القبر ; لأن المقصود ذكر الأجناس الثلاثة : الإنشاء ، والإماتة ، والإعادة في القبر من جنس الإعادة ، ومعنى ( تبعثون ) للجزاء ، فإن قلت : الموت مقطوع به عند كل أحد ، والبعث قد أنكرته طوائف واستبعدته وإن كان مقطوعا به من جهة الدليل لإمكانه في نفسه ومجيء السمع به ، فوجب القطع به فما بال جملة الموت جاءت مؤكدة بأن وباللام ولم تؤكد جملة البعث إلا بإن ؟ ( فالجواب ) : أنه بولغ في تأكيد ذلك تنبيها للإنسان أن يكون الموت نصب عينيه ولا يغفل عن ترقبه ، فإن مآله إليه فكأنه أكدت جملته ثلاث مرار لهذا المعنى ، لأن الإنسان في الحياة الدنيا يسعى فيها غاية السعي ، ويؤكد ويجمع حتى كأنه مخلد فيها ، فنبه بذكر الموت مؤكدا مبالغا فيه ليقصر ، وليعلم أن آخره إلى الفناء فيعمل لدار البقاء ، ولم تؤكد جملة البعث إلا بأن لأنه أبرز في صورة المقطوع به الذي لا يمكن فيه نزاع ولا يقبل إنكار أو أنه حتم لا بد من كيانه فلم يحتج إلى توكيد ثان ، وكنت سألت لم دخلت اللام في قوله : ( لميتون ) ولم تدخل في ( تبعثون ) فأجبت : بأن اللام مخلصة المضارع للحال غالبا فلا تجامع يوم القيامة ; لأن إعمال ( تبعثون ) في الظرف المستقبل تخلصه للاستقبال ، فتنافى الحال ، وإنما قلت غالبا ; لأنه قد جاءت قليلا مع الظرف المستقبل كقوله تعالى : ( وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة ) على أنه يحتمل تأويل هذه الآية وإقرار اللام مخلصة المضارع للحال بأن يقدر عامل في يوم القيامة .



التالي السابق


الخدمات العلمية