الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بسم الله الرحمن الرحيم

( الم تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين ) .

[ ص: 183 ] هذه السورة مكية ، قال ابن عباس : إلا ثلاث آيات ، أولهن : ( ولو أنما في الأرض ) . وقال قتادة : إلا آيتين ، أولهما : ( ولو أنما ) إلى آخر الآيتين ، وسبب نزولها أن قريشا سألت عن قصة لقمان مع ابنه ، وعن بر والديه ، فنزلت . وقيل : نزلت بالمدينة إلا الآيات الثلاث : ( ولو أنما في الأرض ) إلى آخرهن ، لما نزل ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) . وقول اليهود : إن الله أنزل التوراة على موسى وخلفها فينا ومعنا ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " التوراة وما فيها من الأنباء قليل في علم الله " ، فنزل : ( الحميد ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام ) . ومناسبتها لما قبلها أنه قال تعالى : ( ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ) فأشار إلى ذلك بقوله : ( الم تلك آيات الكتاب الحكيم ) ; وكان في آخر تلك : ( ولئن جئتهم بآية ) وهنا : ( وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا ) وتلك إشارة إلى البعيد ، فاحتمل أن يكون ذلك لبعد غايته وعلو شأنه .

و ( آيات الكتاب ) القرآن واللوح المحفوط . ووصف الكتاب بالحكيم ، إما لتضمنه للحكمة ، قيل : أو فعيل بمعنى المحكم ، وهذا يقل أن يكون فعيل بمعنى مفعل ، ومنه عقدت العسل فهو عقيد ، أي : معقد ، ويجوز أن يكون حكيم بمعنى حاكم . وقال الزمخشري : الحكيم : ذو الحكمة ; أو وصف لصفة الله عز وجل على الإسناد المجازي ، ويجوز أن يكون الأصل الحكيم قابله ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فبانقلابه مرفوعا بعد الجر استكن في الصفة المشبهة . وقرأ الجمهور : ( هدى ورحمة ) بالنصب على الحال من الآيات ، والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة ، قاله الزمخشري وغيره ، ويحتاج إلى نظر . وقرأ حمزة ، والأعمش ، والزعفراني ، وطلحة ، وقنبل ، من طريق أبي الفضل الواسطي : بالرفع ، خبر مبتدأ محذوف ، أو خبر بعد خبر ، على مذهب من يجيز ذلك . ( للمحسنين ) يعملون الحسنات ، وهي التي ذكرها ، كإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والإيقان بالآخرة ، ونظيره قول أوس :


الألمعي الذي يظن بك الـ ظن كأن قد رأى وقد سمعا

حكي عن الأصمعي أنه سئل عن الألمعي ، فأنشده ولم يزد ، وخص المحسنون ; لأنهم هم الذين انتفعوا به ونظروه بعين الحقيقة . وقيل : الذين يعملون بالحسن من الأعمال ، وخص منهم القائمون بهذه الثلاث ، لفضل الاعتداد بها . ومن صفة الإحسان ما جاء في الحديث من أن الإحسان : " أن تعبد الله كأنك تراه " . وقيل : المحسنون : المؤمنون . وقال ابن سلام : هم السعداء . وقال ابن شجرة : هم المنجحون . وقيل : الناجون ، وكرر الإشارة إليهم تنبيها على عظم قدرهم . ولما ذكر من صفات القرآن الحكمة ، وأنه هدى ورحمة ، وأن متبعه فائز ، ذكر حال من يطلب من بدل الحكمة باللهو ، وذكر مبالغته في ارتكابه حتى جعله مشتريا له وباذلا فيه رأس عقله ، وذكر علته وأنها الإضلال عن طريق الله .

ونزلت هذه الآية في النضر بن الحارث ، كان يتجر إلى فارس ، ويشتري كتب الأعاجم ، فيحدث قريشا بحديث رستم واسفندار ويقول : أنا أحسن حديثا . وقيل : في ابن خطل ، اشترى جارية تغني بالسب ، وبهذا فسر ( لهو الحديث ) المعازف والغناء . وفي الحديث من رواية أبي أمامة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " شراء المغنيات وبيعهم حرام " ، وقرأ هذه الآية . وقال الضحاك : ( لهو الحديث ) الشرك . وقال مجاهد ، وابن جريج : الطبل ، وهذا ضرب من آلة الغناء . وقال عطاء : الترهات . وقيل : السحر . وقيل : ما كان يشتغل به أهل الجاهلية من السباب . وقال أيضا : ما شغلك عن عبادة الله ، وذكره من السحر والأضاحيك والخرافات والغناء . وقال سهل : الجدال في الدين والخوض في الباطل ، والظاهر أن الشراء هنا مجاز عن اختيار الشيء ، وصرف عقله بكليته إليه . فإن أريد به ما يقع [ ص: 184 ] عليه الشراء ، كالجواري المغنيات عند من لا يرى ذلك ، وككتب الأعاجم التي اشتراها النضر ; فالشراء حقيقة ويكون على حذف ، أي : من يشتري ذات لهو الحديث . وإضافة ( لهو ) إلى ( الحديث ) هي لمعنى " من " ; لأن اللهو قد يكون من حديث ، فهو كباب ساج ، والمراد بالحديث : الحديث المنكر . وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى من التبعيضية ، كأنه قال : ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه . انتهى .

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : " ليضل " بفتح الياء ، وباقي السبعة : بضمها . قال الزمخشري : فإن قلت : القراءة بالرفع بينة ; لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو أن يصد الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه ، فما معنى القراءة بالفتح ؟ قلت : معنيان ، أحدهما : ليثبت على ضلاله الذي كان عليه ، ولا يصدف عنه ، ويزيد فيه ويمده بأن المخذول كان شديد الشكيمة في عداوة الدين وصد الناس عنه . والثاني : أن يوضع ( ليضل ) موضع " ليضل " من قبل أن من أضل كان ضالا لا محالة ، فدل بالرديف على المردوف . فإن قلت : قوله : ( بغير علم ) ما معناه ؟ قلت : لما جعله مشتريا لهو الحديث بالقرآن قال : يشتري بغير علم بالتجارة وبغير بصيرة بها ، حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق ، ونحوه قوله تعالى : ( فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) أي : وما كانوا مهتدين للتجارة وبصراء بها . انتهى . و ( سبيل الله ) الإسلام أو القرآن ، قولان . قال ابن عطية : والذي يترجح أن الآية نزلت في لهو الحديث مضافا إلى الكفر ، فلذلك اشتدت ألفاظ الآية بقوله : ( ليضل ) إلى آخره . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص : ( ويتخذها ) بالنصب عطفا على ( ليضل ) تشريكا في الصلة ; وباقي السبعة : بالرفع ، عطفا على ( يشتري ) تشريكا في الصلة . والظاهر عود ضمير ( ويتخذها ) على السبيل ، كقوله : ( ويبغونها عوجا ) . قيل : ويحتمل أن يعود على ( آيات الكتاب ) . وقال تعالى : ( ولا تتخذوا آيات الله هزوا ) . قيل : ويحتمل أن يعود على الأحاديث ; لأن الحديث اسم جنس بمعنى الأحاديث . وقال صاحب التحرير : ويظهر لي أنه أراد بلهو الحديث : ما كانوا يظهرونه من الأحاديث في تقوية دينهم ، والأمر بالدوام عليه ، وتفسير صفة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن التوراة تدل على أنه من ولد إسحاق ، يقصدون صد أتباعهم عن الإيمان ، وأطلق اسم الشراء لكونهم يأخذون على ذلك الرشا والجعائل من ملوكهم ، ويؤيده ( ليضل عن سبيل الله ) أي : دينه . انتهى ، وفيه بعض حذف وتلخيص .

( وإذا تتلى عليه ) بدأ أولا بالحمل على اللفظ ، فأفرد في قوله : ( من يشتري ) ( وليضل ) ( ويتخذها ) ثم جمع على الضمير في قوله : ( أولئك لهم ) ثم حمل على اللفظ فأفرد في قوله : ( وإذا تتلى ) إلى آخره . و " من " في : ( من يشتري ) موصولة ، ونظيره في " من " الشرطية قوله : ( ومن يؤمن بالله ) فما بعده أفرد ثم قال : ( خالدين ) فجمع ثم قال : ( قد أحسن الله له رزقا ) فأفرد ، ولا نعلم جاء في القرآن ما حمل على اللفظ ، ثم على المعنى ، ثم على اللفظ ، غير هاتين الآيتين . والنحويون يذكرون ( ومن يؤمن بالله ) الآية فقط ، ثم على المعنى ، ثم على اللفظ ، ويستدلون بها على أن هذا الحكم جار في من الموصولة ونظيرها ، مما لم يثن ولم يجمع من الموصولات . وتضمنت هذه الآية ذم المشتري من وجوه التولية عن الحكمة ، ثم الاستكبار ، ثم عدم الالتفات إلى سماعها ، كأنه غافل عنها ، ثم الإيغال في الإعراض بكون أذنيه كأن فيهما صمما يصده عن السماع . و ( كأن لم يسمعها ) حال من الضمير في ( مستكبرا ) أي : مشبها حال من لم يسمعها ، لكونه لا يجعل لها بالا ولا يلتفت إليها ; و " كأن " هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن واجب الحذف . و ( كأن في أذنيه وقرا ) حال من " لم يسمعها " . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكونا استئنافين . انتهى ، يعني الجملتين التشبيهيتين .

ولما ذكر ما وعد به الكفار من العذاب الأليم ، ذكر ما وعد به المؤمنين . وقرأ زيد بن علي : خالدون ، بالواو ; والجمهور : بالياء . وانتصب [ ص: 185 ] ( وعد الله ) على أنه مصدر مؤكد لنفسه ، و ( حقا ) على المصدر المؤكد لغيره ; لأن قوله : ( لهم جنات النعيم ) والعامل فيها متغاير ، ف : ( وعد الله ) منصوب ، أي : يوعد الله وعده ، و ( حقا ) منصوب بـ : أحق ذلك حقا . ( خلق السماوات ) إلى ( فأنبتنا فيها ) تقدم الكلام على ذلك . ومعنى ( كريم ) مدحته بكرم جوهره ونفاسته وحسن منظره ، وما تقضي له النفوس بأنه أفضل من غيره حتى استحق الكرم ، فيخص لفظ الأزواج ما كان نفيسا مستحسنا من جهة ، أو مدحته بإتقان صفته وظهور حسن الرتبة والتحكم للصنع فيه ، فيعم جميع الأزواج ، وهو الأنواع . ( هذا خلق الله ) إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته ، وبخ بذلك الكفار وأظهر حجته . والخلق بمعنى المخلوق ، كقولهم : درهم ضرب الأمير ، أي : مضروبه . ثم سألهم على جهة التهكم بهم أن يورده . وأما خلقته آلهتهم لما ذكر مخلوقاته ، فكيف عبدوها من دونه ؟ ويجوز في ماذا أن تكون كلها موصولة بمعنى الذي ، وتكون مفعولا ثانيا لـ : " أروني " . واستعمال ماذا كلها موصولا قليل ، وقد ذكره سيبويه . ويجوز أن تكون ما استفهامية في موضع رفع على الابتداء ، و " ذا " موصولة بمعنى الذي ، وهو خبر عن ما ، والجملة في موضع نصب بـ : " أروني " ، و " أروني " معلقة عن العمل لفظا لأجل الاستفهام . ثم أضرب عن توبيخهم وتبكيتهم إلى التسجيل عليهم بأنهم في حيرة واضحة لمن يتدبر ; لأن من عبد صنما وترك خالقه جدير بأن يكون في حيرة وتيه لا يقلع عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية