الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 196 ] فصل وكذلك قوله : { لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا } فإن شهادته بما أنزل إليه هي شهادته بأن الله أنزله منه وأنه أنزله بعلمه فما فيه من الخبر هو خبر عن علم الله ليس خبرا عمن دونه وهذا كقوله : { فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله } وليس معنى مجرد كونه أنزله أنه هو معلوم له فإن جميع الأشياء معلومة له وليس في ذلك ما يدل على أنها حق ; لكن المعنى أنزله فيه علمه كما يقال فلان يتكلم بعلم ويقول بعلم فهو سبحانه أنزله بعلمه كما قال : { قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض } ولم يقل تكلم به بعلمه ; لأن ذلك لا يتضمن نزوله إلى الأرض .

                فإذا قال : { أنزله بعلمه } تضمن أن القرآن المنزل إلى الأرض فيه علم الله كما قال : { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم } وذلك يتضمن أنه كلام الله نفسه منه نزل ولم ينزل من عند غيره ; لأن غير الله لا يعلم ما في نفس الله من العلم - ونفسه هي ذاته [ ص: 197 ] المقدسة - إلا أن يعلمه الله بذلك كما قال المسيح عليه السلام { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب } وقالت الملائكة : { لا علم لنا إلا ما علمتنا } وقال : { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } وقال : { فلا يظهر على غيبه أحدا } { إلا من ارتضى من رسول } فغيبه الذي اختص به لا يظهر عليه أحدا إلا من ارتضى من رسول والملائكة لا يعلمون غيب الرب الذي اختص به . وأما ما أظهره لعباده فإنه يعلمه من شاء وما تتحدث به الملائكة فقد تسترق الشياطين بعضه ; لكن هذا ليس من غيبه وعلم نفسه الذي يختص به بل هذا قد أظهر عليه من شاء من خلقه وهو سبحانه قال : { لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه } فشهد أنه أنزله بعلمه بالآيات والبراهين التي تدل على أنه كلامه وأن الرسول صادق .

                وكذلك قال في هود : { فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } لما تحداهم بالإتيان بمثله في قوله : { فليأتوا بحديث مثله } ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا عن ذا وذاك ثم تحداهم أن يأتوا بسورة مثله فعجزوا فإن الخلائق لا يمكنهم أن يأتوا بمثله ولا بسورة مثله ; وإذا كان [ ص: 198 ] الخلق كلهم عاجزين عن الإتيان بسورة مثله ومحمد منهم علم أنه منزل من الله نزله بعلمه لم ينزله بعلم مخلوق فما فيه من الخبر فهو خبر عن علم الله .

                وقوله : { قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض } لأن فيه [ من ] الأسرار التي لا يعلمها إلا الله ما يدل على أن الله أنزله فذكره ذلك يستدل به تارة على أنه حق منزل من الله لكن تضمن من الأخبار عن أسرار السموات والأرض والدنيا والأولين والآخرين وسر الغيب ما لا يعلمه إلا الله . فمن هنا نستدل بعلمنا بصدق أخباره أنه من الله .

                وإذا ثبت أنه أنزله بعلمه تعالى استدللنا بذلك على أن خبره حق وإذا كان خبرا بعلم الله فما فيه من الخبر يستدل به عن الأنبياء وأممهم وتارة عن يوم القيامة وما فيها والخبر الذي يستدل به لا بد أن نعلم صحته من غير جهته وذلك كإخباره بالمستقبلات فوقعت كما أخبر وكإخباره بالأمم الماضية بما يوافق ما عند أهل الكتاب من غير تعلم منهم وإخباره بأمور هي سر عند أصحابها كما قال : { وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا } إلى قوله : { نبأني العليم الخبير } فقوله : { قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض } استدلال بأخباره ; ولهذا ذكره تكذيبا لمن قال هو { إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون } وقوله : { أنزله } استدلال على أنه حق وأن الخبر الذي فيه عن الله حق ; ولهذا ذكر ذلك بعد ثبوت التحدي وظهور عجز الخلق عن الإتيان بمثله .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية