الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين استئناف بياني أيضا ، وهو استدلال آخر على انفراده تعالى بالإلهية ووحدانيته فيها ، وذلك أنه بعد أن استدل عليهم بخلق العوالم العليا والسفلى - وهي مشاهدة لديهم - انتقل إلى الاستدلال عليهم بخلق أنفسهم المعلوم لهم ، وأيضا لما استدل على وحدانيته بخلق أعظم الأشياء المعلومة لهم استدل عليهم أيضا بخلق أعجب الأشياء للمتأمل وهو الإنسان في طرفي أطواره ; من كونه نطفة مهينة إلى كونه عاقلا فصيحا مبينا بمقاصده وعلومه .

وتعريف الإنسان للعهد الذهني ، وهو تعريف الجنس ، أي خلق الجنس المعلوم الذي تدعونه بالإنسان .

وقد ذكر للاعتبار بخلق الإنسان ثلاثة اعتبارات : جنسه المعلوم بماهيته وخواصه من الحيوانية والناطقية وحسن القوام ، وبقية أحوال كونه ، ومبدأ خلقه وهو النطفة التي هي أمهن شيء نشأ منها أشرف نوع ، ومنتهى ما شرفه به وهو العقل ، وذلك في جملتين وشبه جملة خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين .

والخصيم من صيغ المبالغة ، أي كثير الخصام .

و ( مبين ) خبر ثان عن ضمير ( فإذا هو ) ، أي فإذا هو متكلم مفصح عما في ضميره ومراده بالحق أو بالباطل والمنطيق بأنواع الحجة حتى السفسطة .

والمراد : الخصام في إثبات الشركاء ، وإبطال الوحدانية ، وتكذيب من يدعون إلى التوحيد ، كما دل عليه قوله تعالى في سورة يس [ ص: 103 ] أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم .

والإتيان بحرف ( إذا ) المفاجأة استعارة تبعية ، استعير الحرف الدال على معنى المفاجأة لمعنى ترتب الشيء على غير ما يظن أن يترتب عليه ، وهذا معنى لم يوضع له حرف ، ولا مفاجأة بالحقيقة هنا ; لأن الله لم يفجأه ذلك ولا فجأ أحدا ، ولكن المعنى أنه بحيث لو تدبر الناظر في خلق الإنسان لترقب منه الاعتراف بوحدانية خالقه وبقدرته على إعادة خلقه ، فإذا سمع منه الإشراك والمجادلة في إبطال الوحدانية ، وفي إنكار البعث كان كمن فجأه ذلك ، ولما كان حرف المفاجأة يدل على حصول الفجأة للمتكلم به تعين أن تكون المفاجأة استعارة تبعية .

فإقحام حرف المفاجأة جعل الكلام مفهما أمرين هما : التعجيب من تطور الإنسان من أمهن حالة إلى أبدع حالة ، وهي حالة الخصومة والإبانة الناشئتين عن التفكير والتعقل ، والدلالة على كفرانه النعمة ، وصرفه ما أنعم به عليه في عصيان المنعم عليه ، فالجملة في حد ذاتها تنويه ، وبضميمة حرف المفاجأة أدمجت مع التنويه التعجيب ، ولو قيل : فهو خصيم ، أو فكان خصيما لم يحصل هذا المعنى البليغ .

التالي السابق


الخدمات العلمية