الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          فصل استدركنا شيئا يحتج به الشافعيون في إجازتهم السلم حالا في الذمة إلى غير أجل ، وهما خبران : أحدهما : رويناه من طريق البزار قال : نا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين قالت : { ابتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم جزورا من أعرابي بوسق من تمر الذخيرة وهي العجوة فجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله ، فالتمس التمر فلم يجده ، فقال للأعرابي : يا عبد الله إنا ابتعنا منك جزورا بوسق من تمر الذخيرة ، ونحن نرى أنه عندنا ، فالتمسناه فلم نجده ؟ فقال الأعرابي : واغدراه ، فزجره الناس وقالوا : أتقول هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوه فإن لصاحب الحق مقالا ، ثم أعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام ثانية كما أوردنا ، فقال الأعرابي : واغدراه ، قال : فلما لم يفهم عنه الأعرابي أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم حكيم : أقرضينا وسقا من تمر الذخيرة حتى يكون عندنا فنقضيك ؟ فقالت : أرسل رسولا يأتي يأخذه ، فقال للأعرابي : انطلق معه حتى يوفيك } وذكر باقي الخبر .

                                                                                                                                                                                          فهذا لا حجة لهم فيه على مذهبهم ومذهبنا ; لأن البيع لم يكن تم بعد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الأعرابي ; لأنهما لم يتفرقا .

                                                                                                                                                                                          هكذا نص الحديث ، ويبين ذلك { قول النبي صلى الله عليه وسلم له إنا كنا ابتعنا منك بعيرا بوسق من تمر الذخيرة ، ونحن نرى أنه عندنا ، فالتمسناه فلم نجده } [ ص: 50 ] وقول أم المؤمنين في الخبر نفسه ، فلما لم يفهم عنه الأعرابي استقرض من أم حكيم فصح أنه عليه السلام حينئذ أمضى معه العقد المحدود وتم البيع بحضور الثمن وقبض الأعرابي .

                                                                                                                                                                                          هذا الخبر حجة على الحنفيين ، والمالكيين ; لأنهم يرون البيع يتم قبل التفرق وليس لهم أن يقولوا : إن هذا منسوخ بذكر الأجل في السلم ; لأن ذكر الأجل في السلم كان في أول الهجرة : كما روينا من طريق البخاري نا صدقة هو ابن خالد نا سفيان بن عيينة أخبرني ابن أبي نجيح عن عبد الله بن كثير عن أبي المنهال عن ابن عباس قال : { قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون بالتمر السنتين ، والثلاث فقال : من أسلف في شيء فليسلف من كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم } وكان خبر عائشة بعد ذلك .

                                                                                                                                                                                          فإن قيل : إن قول النبي صلى الله عليه وسلم { دعوه فإن لصاحب الحق مقالا } دليل على أن البيع قد كان تم بينهما .

                                                                                                                                                                                          قلنا : لأنه عليه السلام لم يقل : إن هذا الأعرابي صاحب حق ، إنما أخبر أن لصاحب الحق مقالا فقط ، وهو كذلك ، وحاشا الله أن يكون الأعرابي صاحب حق وهو يصف النبي صلى الله عليه وسلم بالغدر ؟

                                                                                                                                                                                          والخبر الثاني : رويناه من طريق ابن أبي شيبة نا عبد الله بن نمير نا يزيد بن زياد بن أبي الجعد نا أبو صخرة جامع بن شداد عن طارق بن عبد الله المحاربي : قال { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرة بسوق ذي المجاز وهو ينادي بأعلى صوته يا أيها الناس قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا ، وأبو لهب يتبعه بالحجارة قد أدمى كعبيه وعرقوبيه ، فلما ظهر الإسلام قدم المدينة أقبلنا من الربذة حتى نزلنا قريبا من المدينة ، ومعنا ظعينة لنا ، فأتانا رجل فسلم علينا ، فرددنا عليه السلام ، ومعنا جمل لنا ، فقال : أتبيعون الجمل ؟ فقلنا نعم ، قال : بكم ؟ قلنا : بكذا وكذا صاعا من تمر ، قال : قد أخذته ثم أخذ برأس الجمل حيث دخل المدينة ، فتلاومنا وقلنا : أعطيتم جملكم رجلا لا تعرفونه ؟ فقالت الظعينة : لا تلاوموا فلقد رأيت وجها ما كان ليخفركم ما رأيت وجها أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه ، فلما كان العشي أتانا رجل فقال : السلام عليكم إني رسول رسول الله إليكم [ ص: 51 ] وإنه يأمركم أن تأكلوا حتى تشبعوا وتكتالوا حتى تستوفوا ، ففعلنا ، فلما كان من الغد دخلنا المدينة ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس } وذكر باقي الخبر .

                                                                                                                                                                                          قال علي : هذا لا حجة لهم فيه لوجهين : أحدهما : أنه ليس فيه دليل على أن الذي اشترى الجمل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أنه علم بصفة ابتياعه ، والأظهر أن غيره كان المبتاع بدليل قول طارق بأنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرة بذي المجاز ومرة على المنبر يخطب ، فلو كان عليه السلام هو الذي ابتاع الجمل لكان قد رآه ثلاث مرات وهذا خلاف الخبر .

                                                                                                                                                                                          فصح أنه كان غيره ، ولا حجة في عمل غيره ، وقد كان في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الجمال البارع ، والوسامة ، والمعاملة الجميلة .

                                                                                                                                                                                          وقد اشترى بلال وما يقطع بفضل أحد من الصحابة عليه غير أبي بكر ، وعمر : صاعا من تمر بصاعي تمر ، وقد يكون مشتري الجمل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤدي عنه إلى القوم ثمن الجمل ففعل .

                                                                                                                                                                                          الوجه الثاني : أنه لو صح أنه عليه السلام كان المشتري ، أو أنه علم الأمر فلم ينكره لكان حديث ابن عباس بإيجاب الأجل زائدا عليه زيادة يلزم إضافتها إليه ، ولا يحل تركها .

                                                                                                                                                                                          فبطل تعلقهم بهذين الخبرين ، وليعلم من قرأ كتابنا هذا أنهما صحيحان لا داخلة فيهما إلا أن القول فيهما كما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية