الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب .

                                                          كان إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - متجها دائما إلى مقام الربوبية فنادى ربه بالربوبية، وقد ذكرناها في ذلك من ضراعة المؤمن المقدر لنعمة الإيجاد والربوبية، والقيام على شئونه، وأنه الحي القيوم القائم على ما أنشأ من خلق، وهو اللطيف الخبير، ودعاه بالمغفرة، وابتدأ بنفسه أولا، ثم ثنى بوالديه، وثلث بالمؤمنين الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، سواء أكانوا من ذريته أم كانوا من غيرهم، فهو دعاء لعامة المؤمنين، وإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - كانت أدعيته العامة جماعية؛ لأنه نادى بالأخوة الإنسانية.

                                                          وطلب الغفران وستر الذنوب، ومحو السيئات، وقيام الحسنات، يوم يقوم الحساب، وهو يوم القيامة حيث يكون الحساب بأن يقوم كل إنسان ما قدم من خير، وقد كتب ما ارتكب من خير وشر، فهو يطلب من الله في هذا اليوم عفوه وتغليب مغفرته على عذابه، وذلك بالنسبة للمؤمنين، وبالنسبة لوالديه.

                                                          وهنا يسأل سائل كيف يستغفر إبراهيم لأبويه، وأبوه بلا ريب كان مشركا يعبد الأوثان؟ ويقال: إنه كان يصنعها؟ ونقول في هذا: إن إبراهيم كان رجل الفطرة المستقيمة، ففطرته الإنسانية المستقيمة دفعته لأن يكبر عليه أن يهتدي وأبوه مشرك، وأن يعبد الله وأبوه يعبد الشيطان، وأن يكون في الجنة وأبوه في النار، وقد بدا ذلك في مجاوبته، إذ قال لأبيه: [ ص: 4046 ] يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا طرده أبوه من حضرته مع ما في عبارته من رفق، وما تشف عنه من محبة، ولكنه يستمر في رفقه بمقتضى حكم الفطرة، فيقول: سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا كانت هذه أول موعدة وعدها إياه، فاستغفر له ولم تكن بينهما بغضاء الضلال التي اتسم بها أبوه؛ ولذا قال تعالى: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء

                                                          إذن كان الخليل - صلى الله عليه وسلم - يستغفر لأبيه، ويطلب له المغفرة، ومرتبطا معه بمودة لم تفرقها عداوة، وهذه السورة التي نتكلم في معانيها سورة مكية، وسورة الممتحنة التي فيها إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك مدنية، وهذا يدل على أن النهي لم يكن حتى سورة الممتحنة، وجاء النهي بعد ذلك كما يدل عليه قوله تعالى:

                                                          وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم

                                                          وقد قلنا: إن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - تتمثل فيه الفطرة القويمة.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية