الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وأنت حل ) جملة حالية تفيد تعظيم المقسم به ، أي فأنت مقيم به ، وهذا هو الظاهر ، وقال ابن عباس وجماعة : معناه : وأنت حلال بهذا البلد ، يحل لك فيه قتل من شئت ، وكان هذا يوم فتح مكة . وقال ابن عطية : وهذا يتركب على قول من قال : لا نافية ، أي إن هذا البلد لا يقسم الله به ، وقد جاء أهله بأعمال توجب الإحلال إحلال حرمته . وقال شرحبيل بن سعد : يعني ( وأنت حل بهذا البلد ) جعلوك حلالا مستحل الأذى والقتل والإخراج ، وهذا القول بدأ به الزمخشري ، وقال : وفيه بعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة ، وتعجب من حالهم في عداوته ، أو سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بالقسم ببلده على أن الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد ، واعترض بأن وعده فتح مكة تتميما للتسلية والتنفيس عنه ، فقال : وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريده من القتل والأسر .

ثم قال الزمخشري : بعد كلام طويل : فإن قلت : أين نظير قوله : ( وأنت حل ) في معنى الاستقبال ؟ قلت : قوله عز وجل : ( إنك ميت وإنهم ميتون ) واسع في كلام العباد ، تقول لمن تعده الإكرام والحبا : وأنت مكرم محبو ، وهو في كلام الله أوسع ؛ لأن الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة ، وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال ، وأن تفسيره بالحال محال ، إن السورة بالاتفاق مكية ، وأين الهجرة من وقت نزولها ؟ فما بال الفتح ؟ انتهى . وحمله على أن الجملة اعتراضية لا يتعين ، وقد ذكرنا أولا أنها جملة حالية ، وبينا حسن موقعها ، وهي حال مقارنة ، لا مقدرة ولا محكية ، فليست من الإخبار بالمستقبل ، وأما سؤاله والجواب ، فهذا لا يسأله من له أدنى تعلق بالنحو ؛ لأن الأخبار قد تكون بالمستقبلات ، وإن اسم الفاعل وما يجري مجراه حالة إسناده أو الوصف به لا يتعين حمله على الحال ، بل يكون للماضي تارة ، وللحال أخرى ، وللمستقبل أخرى ، وهذا من مبادئ علم النحو . وأما قوله : وكفاك دليلا قاطعا . . . إلخ ، فليس بشيء ، لأنا لم نحمل ( وأنت حل ) على أنه يحل لك ما تصنع في مكة من الأسر والقتل في وقت نزولها بمكة فتنافيا ، بل حملناه على أنه مقيم بها خاصة ، وهو [ ص: 475 ] وقت النزول كان مقيما بها ضرورة ، وأيضا فما حكاه من الاتفاق على أنها نزلت بمكة فليس بصحيح ، وقد حكي الخلاف فيها عن قول ابن عطية ، ولا يدل قوله : ( وأنت حل بهذا البلد ) على ما ذكروه من أن المعنى يستحل إذ ذاك ، ولا على أنك تستحل فيه أشياء ، بل الظاهر ما ذكرناه أولا من أنه تعالى أقسم بها لما جمعت من الشرفين ، شرفها بإضافتها إلى الله تعالى ، وشرفها بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإقامته فيها ، فصارت أهلا لأن يقسم بها .

والظاهر أن قوله : ( ووالد وما ولد ) لا يراد به معين ، بل ينطلق على كل والد ، وقال ابن عباس ذلك ، قال : هو على العموم يدخل فيه جميع الحيوان . وقال مجاهد : آدم وجميع ولده . وقيل : والصالحين من ذريته . وقيل : نوح وذريته . وقال أبو عمران الحوفي : إبراهيم عليه السلام ، وجميع ولده . وقيل : ووالد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما ولد إبراهيم عليه السلام . وقال الطبري والماوردي : يحتمل أن يكون الوالد النبي صلى الله عليه وسلم ، لتقدم ذكره ، وما ولد أمته ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما أنا لكم بمنزلة الوالد ) ولقراءة عبد الله : ( وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم ) فأقسم تعالى به وبأمته بعد أن أقسم ببلده مبالغة في شرفه عليه الصلاة والسلام . وقال الزمخشري : فإن قلت : ما المراد بوالد وما ولد ؟ قلت : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن ولده ، أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه ، وحرم أبيه إبراهيم ، ومنشأ أبيه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام ، وبمن ولده وبه ، فإن قلت : لم نكر ؟ قلت : للإبهام المستقل بالمدح والتعجب ، فإن قلت : هلا قيل : ومن ولد ؟ قلت : فيه ما في قوله : ( والله أعلم بما وضعت ) أي بأي شيء وضعت ، يعني موضوعا عجيب الشأن . انتهى . وقال الفراء : وصلح ما للناس ، كقوله : ( ما طاب لكم ) ، ( وما خلق الذكر والأنثى ) وهو الخالق للذكر والأنثى . انتهى . وقال ابن عباس وعكرمة وابن جبير : المراد بالوالد الذي يولد له ، وبما ولد العاقر الذي لا يولد له ، جعلوا ما نافية ، فتحتاج إلى تقدير موصول يصح به هذا المعنى ، كأنه قال : ووالد والذي ما ولد ، وإضمار الموصول لا يجوز عند البصريين .

التالي السابق


الخدمات العلمية