الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال الخليل : في قوله عز وجل : ( والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى ) الواوان الأخيرتان ليستا بمنزلة الأولى ، ولكنهما الواوان اللتان يضمان الأسماء إلى الأسماء في قولك : مررت بزيد وعمرو ، والأولى بمنزلة الباء والتاء . انتهى . وأما قوله : إن واو القسم مطرح معه إبراز الفعل اطراحا كليا ، فليس هذا الحكم مجمعا عليه ، بل قد أجاز ابن كيسان التصريح بفعل القسم مع الواو ، فتقول : أقسم أو أحلف والله لزيد قائم . وأما قوله : والواوات العواطف نوائب عن هذه . . . إلخ ، فمبني على أن حرف العطف عامل لنيابته مناب العامل ، وليس هذا بالمختار .

والذي نقوله : إن المعضل هو تقرير العامل في إذا بعد الإقسام ، كقوله : ( والنجم إذا هوى ) ، ( والليل إذ أدبر والصبح إذا أسفر ) ، ( والقمر إذا تلاها ) ، ( والليل إذا يغشى ) وما أشبهها ، فإذا ظرف مستقبل ، لا جائز أن يكون العامل فيه فعل القسم المحذوف ؛ لأنه فعل إنشائي ، فهو في الحال ينافي أن يعمل في المستقبل لإطلاق زمان العامل زمان المعمول ، ولا جائز أن يكون ثم مضاف محذوف أقيم المقسم به مقامه ، أي : وطلوع النجم ، ومجيء الليل ، لأنه معمول لذلك الفعل . فالطلوع حال ، ولا يعمل فيه المستقبل ضرورة أن زمان المعمول زمان العامل ، ولا جائز أن يعمل فيه نفس المقسم به لأنه ليس من قبيل ما يعمل ، سيما إن كان جزما ، ولا جائز أن يقدر محذوف قبل الظرف فيكون قد عمل فيه ، ويكون ذلك العامل في موضع الحال وتقديره : والنجم كائنا إذا هوى ، والليل كائنا إذا يغشى ؛ لأنه لا يلزم كائنا أن يكون منصوبا بالعامل ، ولا يصح أن يكون معمولا لشيء مما فرضناه أن يكون عاملا ، وأيضا فقد يكون القسم به جثة ، وظروف الزمان لا تكون أحوالا عن الجثث ، كما لا تكون أخبارا .

( ونفس وما سواها ) اسم جنس ، ويدل على ذلك ما بعده من قوله : ( فألهمها ) وما بعده ، وتسويتها : إكمال عقلها ونظرها ، ولذلك ارتبط به . ( فألهمها ) لأن الفاء تقتضي الترتيب على ما قبلها من التسوية التي هي لا تكون إلا بالعقل . وقال الزمخشري : فإن قلت : لم نكرت النفس ؟ قلت : فيه وجهان : [ ص: 481 ] أحدهما : أن يريد نفسا خاصة من النفوس ، وهي نفس آدم ، كأنه قال : وواحدة من النفوس . انتهى . وهذا فيه بعد للأوصاف المذكورة بعدها ، فلا تكون إلا للجنس ، ألا ترى إلى قوله : ( قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) كيف تقتضي التغاير في المزكى وفي المدسى ؟ ( فألهمها ) قال ابن جبير : ألزمها . وقال ابن عباس : عرفها . وقال ابن زيد : بين لها . وقال الزجاج : وفقها للتقوى ، وألهمها فجورها : أي خذلها ، وقيل : عرفها وجعل لها قوة يصح معها اكتساب الفجور واكتساب التقوى . وقال الزمخشري : ومعنى إلهام الفجور والتقوى : إفهامها وإعقالها وأن أحدهما حسن والآخر قبيح ، وتمكينه من اختيار ما شاء منهما بدليل قوله : ( قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) فجعله فاعل التزكية والتدسية ومتوليهما . والتزكية : الإنماء ، والتدسية : النقص والإخفاء بالفجور . انتهى . وفيه دسيسة الاعتزال .

( قد أفلح من زكاها ) قال الزجاج وغيره : هذا جواب القسم ، وحذفت اللام لطول الكلام ، والتقدير : لقد أفلح . وقيل : الجواب محذوف تقديره لتبعثن . وقال الزمخشري : تقديره ليدمدمن الله عليهم ، أي على أهل مكة ، لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما دمدم على ثمود ؛ لأنهم كذبوا صالحا ، وأما ( قد أفلح من زكاها ) فكلام تابع لقوله : ( فألهمها فجورها وتقواها ) على سبيل الاستطراد ، وليس من جواب القسم في شيء . انتهى . وزكاؤها : طهورها ونماؤها بالعمل الصالح ، ودساها : أخفاها وحقرها بعمل المعاصي . والظاهر أن فاعل زكى ودسى ضمير يعود على من ، وقاله الحسن وغيره . ويجوز أن يكون ضمير الله تعالى ، وعاد الضمير مؤنثا باعتبار المعنى من مراعاة التأنيث . وفي الحديث ما يشهد لهذا التأويل ، كان عليه السلام ، إذا قرأ هذه الآية قال : ( اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ) . وقال الزمخشري : وأما قول من زعم أن الضمير في زكى ودسى لله تعالى ، وأن تأنيث الراجع إلى " من " لأنه في معنى النفس ، فمن تعكيس القدرية الذين يوركون على الله قدرا هو بريء منه ومتعال عنه ، ويحيون لياليهم في تمحل فاحشة ينسبونها إليه تعالى . انتهى . فجرى على عادته في سب أهل السنة . هذا وقائل ذلك هو بحر العلم عبد الله بن عباس ، والرسول صلى الله عليه وسلم ، يقول : ( وزكها أنت خير من زكاها ) .

وقال تعالى : ( دساها ) في أهل الخير بالرياء وليس منهم ، وحين قال : ( وتقواها ) أعقبه بقوله : ( قد أفلح من زكاها ) . ولما قال : ( وقد خاب من دساها ) أعقبه بأهل الجنة ، ولما ذكر تعالى خيبة من دسى نفسه ، ذكر فرقة فعلت ذلك ليعتبر بهم . ( بطغواها ) الباء عند الجمهور سببية ، أي كذبت ثمود نبيها بسبب طغيانها ، وقال ابن عباس : الطغوى هنا العذاب ، كذبوا به حتى نزل بهم لقوله : ( فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية ) وقرأ الجمهور : ( بطغواها ) بفتح الطاء ، وهو مصدر من الطغيان ، قلبت فيه الياء واوا فصلا بين الاسم وبين الصفة ، قالوا فيها صرنا وحدنا ، وقالوا في الاسم تقوى وشروى ، وقرأ الحسن ومحمد بن كعب وحماد بن سلمة : بضم الطاء ، وهو مصدر كالرجعى ، وكان قياسها الطغيا بالياء كالسقيا ، لكنهم شذوا فيه . ( إذ انبعث ) أي خرج لعقر الناقة بنشاط وحرص ، والناصب لإذ ( كذبت ) ، و ( أشقاها ) قدار بن سالف ، وقد يراد به الجماعة ؛ لأن أفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة جاز إفراده وإن عني به جمع ، وقال الزمخشري : ويجوز أن يكونوا جماعة ، والتوحيد لتسويتك في أفعل التفضيل إذا أضفته بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، وكان يجوز أن يقال : أشقوها . انتهى . فأطلق الإضافة ، وكان ينبغي أن يقول إلى معرفة ، لأن إضافته إلى نكرة لا يجوز فيه إذ ذاك ، إلا أن يكون مفردا مذكرا ، كحاله إذا كان بمن ، والظاهر أن الضمير في ( لهم ) عائد على أقرب مذكور وهو ( أشقاها ) إذا أريد به الجماعة ، ويجوز أن يعود على ( ثمود ) . ( رسول ) هو صالح عليه السلام ، وقرأ الجمهور : ( ناقة الله ) بنصب التاء ، وهو منصوب [ ص: 482 ] على التحذير مما يجب إضمار عامله ، لأنه قد عطف عليه ، فصار حكمه بالعطف حكم المكرر ، كقولك : الأسد الأسد ، أي احذروا ناقة الله وسقياها فلا تفعلوا ذلك . ( فكذبوه ) الجمهور على أنهم كانوا كافرين ، وروي أنهم كانوا قد أسلموا قبل ذلك وتابعوا صالحا بمدة ، ثم كذبوا وعقروا ، وأسند العقر للجماعة لكونهم راضين به ومتمالئين عليه .

وقرأ الجمهور : ( فدمدم ) بميم بعد دالين ، وابن الزبير : ( فدهدم ) بهاء بينهما ، أي أطبق عليهم العذاب مكررا ذلك عليهم . ( بذنبهم ) فيه تخويف من عاقبة الذنوب ، ( فسواها ) قيل : فسوى القبيلة في الهلاك ، عاد عليها بالتأنيث كما عاد في ( بطغواها ) وقيل : سوى الدمدمة ، أي سواها بينهم ، فلم يفلت منهم صغيرا ولا كبيرا ، وقرأ أبي والأعرج ونافع وابن عامر : ( فلا يخاف ) بالفاء ، وباقي السبعة ( ولا ) بالواو ، والضمير في يخاف الظاهر عوده إلى أقرب مذكور وهو ربهم ، أي لا درك عليه تعالى في فعله بهم لا يسأل عما يفعل ، قاله ابن عباس والحسن ، وفيه ذم لهم وتعقبه لآثارهم ، وقيل : يحتمل أن يعود على صالح ، أي لا يخاف عقبى هذه الفعلة بهم ، إذ كان قد أنذرهم وحذرهم ، ومن قرأ ، ولا يحتمل الضمير الوجهين . وقال السدي والضحاك ومقاتل والزجاج وأبو علي : الواو واو الحال ، والضمير في يخاف عائد على ( أشقاها ) ، أي انبعث لعقرها ، وهو لا يخاف عقبى فعله لكفره وطغيانه ، والعقبى : خاتمة الشيء وما يجيء من الأمور بعقبه ، وهذا فيه بعد لطول الفصل بين الحال وصاحبها .

التالي السابق


الخدمات العلمية