الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقوله عز وجل:

الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار

"الذين" بدل من "الذين اتقوا" ، فسر في هذه الآية أحوال المتقين الموعودين بالجنات. ويحتمل أن يكون إعراب قوله: "الذين" في هذه الآية رفعا على القطع [ ص: 177 ] وإضمار الابتداء، ويحتاج إلى القطع وإضمار فعل في قوله "الصابرين"، والخفض في ذلك كله على البدل أوجه. ويجوز في "الذين"، وما بعده النصب على المدح.

والصبر في هذه الآية معناه: على الطاعات وعن المعاصي والشهوات. والصدق معناه: في الأقوال والأفعال. والقنوت: الطاعة والدعاء أيضا وبكل ذلك يتصف المتقي. والإنفاق معناه: في سبيل الله ومظان الأجر كالصلة للرحم وغيرها، ولا يختص هذا الإنفاق بالزكاة المفروضة. والاستغفار: طلب المغفرة من الله تعالى، وخص تعالى السحر لما فسر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر.

وروي في تفسير قول يعقوب عليه السلام: "سوف أستغفر لكم ربي" أنه أخر الأمر إلى السحر، وروى إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال: سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد يقول: رب أمرتني فأطعتك، وهذا سحر فاغفر لي، فنظرت فإذا ابن مسعود. وقال أنس بن مالك: أمرنا أن نستغفر بالسحر سبعين استغفارة. وقال نافع: كان ابن عمر يحيي الليل صلاة ثم يقول: يا نافع أسحرنا؟ فأقول: لا، فيعاود الصلاة ثم يسأل، فإذا قلت نعم قعد يستغفر. فلفظ الآية إنما يعطي طلب المغفرة، وهكذا تأوله من ذكرناه من الصحابة. وقال قتادة: المراد بالآية، المصلون بالسحر. وقال زيد بن أسلم: المراد بها الذين يصلون صلاة الصبح في جماعة، وهذا كله يقترن به الاستغفار.

والسحر - بفتح الحاء وسكونها-: آخر الليل. قال الزجاج وغيره: هو قبل طلوع [ ص: 178 ] الفجر، وهذا صحيح لأن ما بعد الفجر هو من اليوم لا من الليلة. وقال بعض اللغويين: السحر من ثلث الليل الآخر إلى الفجر. والحديث في التنزل وهذه الآية في الاستغفار يؤيدان هذا. وقد يجيء في أشعار العرب ما يقتضي أن حكم السحر يستمر فيما بعد الفجر، نحو قول امرئ القيس:


يعل به برد أنيابها ... إذا غرد الطائر المستحر



يقال: أسحر واستحر إذا دخل في السحر، وكذلك قولهم: نسيم السحر، يقع لما بعد الفجر، وكذلك قول الشاعر:


يجد النساء حواسرا يندبنه ...     قد قمن قبل تبلج الأسحار



فقد قضى أن السحر يتبلج بطلوع الفجر، ولكن حقيقة السحر في هذه الأحكام الشرعية من الاستغفار المحمود، ومن سحور الصائم، ومن يمين لو وقعت - إنما هي من ثلث الليل الباقي إلى الفجر.

التالي السابق


الخدمات العلمية