الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1677 - مسألة : ومن لطم خد عبده أو خد أمته بباطن كفه فهما حران ساعتئذ إذا كان اللاطم بالغا مميزا . وكذلك إن ضربهما أو حدهما حدا لم يأتياه فهما حران بذلك . ولا يعتق عليه مملوك لا بمثلة ولا بغير ما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                          فإن كان اللاطم محتاجا إلى خدمة المملوك الملطوم أو الأمة كذلك ، ولا غنى له عنه أو عنها - استخدمه أو استخدمها - فإذا استغنى عنه أو عنها - فهي أو هو حران حينئذ . لما روينا من طريق محمد بن المثنى نا محمد بن جعفر غندر ، وعبد الرحمن بن مهدي ، قال غندر : نا شعبة ، وقال عبد الرحمن : عن سفيان الثوري - ثم اتفق سفيان ، وشعبة ، كلاهما عن فراس بن يحيى قال : سمعت ذكوان - هو أبو صالح السمان - يحدث عن زاذان أبي عمر قال : { دعا ابن عمر غلاما له فرأى بظهره أثرا فقال له : أوجعتك ؟ قال : لا ، قال : فأنت عتيق ، ثم قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من ضرب غلاما له حدا لم يأته ، أو لطمه ، فإن كفارته أن يعتقه } .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 201 ] اللطم لا يقع في اللغة إلا بباطن الكف على الخد فقط ، وهو في القفا الصفع . وحديث شعبة ، وسفيان زائد على ما رواه أبو عوانة عن فراس عن ذكوان عن ابن عمر ، وهو حديث واحد ، وزيادة العدل لا يجوز ردها . ومن طريق مسلم نا محمد بن عبد الله بن نمير نا أبي نا سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل { عن معاوية بن سويد بن مقرن عن أبيه قال : كنا بني مقرن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا إلا خادم واحد فلطمها أحدنا ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أعتقوها ، فقال : ليس لهم خادم غيرها ، قال : فليستخدموها فإذا استغنوا فليخلوا سبيلها } فهذا أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل لأحد مخالفته .

                                                                                                                                                                                          فإن قيل : قد رويتم من طريق أبي مسعود البدري { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه يضرب غلاما له فقال له : اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك عليه ؟ فقال : يا رسول الله هو حر لوجه الله تعالى ثم قال أما لو لم تفعل للفحتك النار أو لمستك النار } . قلنا : ليس في هذا أمر بعتقه وإنما فيه أنه أتى ذنبا بضربه استحق عليه النار ، فلما أعتقه كانت حسنة أذهبت تلك السيئة ، كما لو فعل حسنة أخرى توازيها أو تربي عليها ، قال الله عز وجل { : إن الحسنات يذهبن السيئات } .

                                                                                                                                                                                          وأما أمره عليه الصلاة والسلام بعتقه ، فقد قال تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } . فمن لزمه أمر فلم ينفذه وجب إنفاذه عليه لقول الله تعالى { : كونوا قوامين بالقسط شهداء لله } .

                                                                                                                                                                                          وقال مالك : يعتق بالمثلة ، وقاله الليث ، والأوزاعي ، إلا أن مالكا رأى ولاءه لسيده الممثل به ، وقال الليث : لا ولاء له ، لكن لجماعة المسلمين - وروي هذا أيضا [ ص: 202 ] عن ربيعة ، والزهري ، ويحيى بن سعيد الأنصاري - وصح عن قتادة ، وعن الصحابة رضي الله عنهم عن عمر بن الخطاب أنه أعتق أمة أقعدت على مقلى فأحرقت عجزها - وهو غير صحيح عن عمر - لأنه من طريق معمر عن أيوب عن أبي قلابة : أن عمر ، ومن طريق سفيان الثوري عن عبد الملك العرزمي عن رجل منهم : أن عمر ، ومن طريق مالك : أن عمر ، ومن طريق مخرمة بن بكير عن أبيه عن سليمان بن يسار : أن عمر ، فالأول : مرسل ; لأن أبا قلابة لم يدرك عمر . والثاني : منقطع ، وعن ضعيف ، وعن مجهول . والثالث : منقطع ، أين مالك من عمر ؟ والرابع : منقطع في موضعين ، لأن مخرمة لم يسمع من أبيه شيئا ، وسليمان لم يدرك عمر . وقد صح خلاف هذا عن غير عمر . كما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال : سأل حيان العبدي عطاء بن أبي رباح عمن شج عبده أو كسره ؟ فقال عطاء : ليكسه ثوبا أو ليعطه شيئا ، فقال حيان : هكذا أخبرني جابر بن زيد - وهو أبو الشعثاء - عن ابن عباس فيمن فقأ عين عبده ؟ قال ابن عباس : أحب إلي أن يعتقه ، فهذا ثابت عن ابن عباس ، ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقولنا هذا هو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان . واحتج من رأى العتق بالمثلة بما روينا من طريق ابن وهب عن يحيى بن أيوب عن المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عمرو بن العاص : { أن زنباعا خصى عبدا له وجدع أذنيه وأنفه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مثل به أو حرق بالنار فهو حر ، وهو مولى الله ورسوله ثم أعتقه عليه الصلاة والسلام } . وقال ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب : كان زنباع يومئذ كافرا - وهذا مملوء مما [ ص: 203 ] لا خير فيه : يحيى بن أيوب ، والمثنى بن الصباح ، وابن لهيعة ، ثم هو صحيفة - والعجب أن مالكا يخالفه ; لأنه يرى الولاء للمعتق . ومن طريق جيدة إلى معمر ، وابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده { أن رجلا جب عبده ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب فأنت حر } وهذه صحيفة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق البزار نا محمد بن المثنى نا محمد بن الحارث نا محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { : لا شفعة لغائب ، ولا لصغير ، والشفعة كحل العقال - من مثل بمملوكه فهو حر ، وهو مولى الله ورسوله - والناس على شروطهم ما وافقوا الحق } وابن البيلماني ضعيف مطرح لا يحتج بروايته . ومن عجائب الدنيا احتجاج المالكيين لصحيفة عمرو بن شعيب هذه في عتق الممثل به ، وهو قد خالف هذا الخبر نفسه إذ جعل الولاء لسيده وليس هو الذي أعتقه بل أعتق عليه على رغمه ، ونص الخبر { أنه مولى الله تعالى ورسوله } . وجعلوا الشفعة للغائب ، فصار حجة فيما اشتهوا ولم يكن حجة فيما لم يشتهوا ، واحتجوا من خبر ابن البيلماني بعتق من مثل بمملوكه وخالفوه في الشفعة ولم ير الحنفيون ، ولا الشافعيون خبر عمرو بن شعيب هاهنا حجة إذ خالفه رأي أبي حنيفة ، والشافعي ، فإذا وافقهم صار حينئذ صحيحا وحجة . كروايته في أم الصغير أنت أحق به ما لم تنكحي . والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم . ورد شهادة ذي الغمر لأخيه ، وشهادة القانع لأهل البيت ، وإجازتها لغيرهم . وقد رد المالكيون رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده كثيرا إذا خالفت رأي مالك - ونعوذ بالله من مثل هذا اللعب بالدين .

                                                                                                                                                                                          ومن عجائب الدنيا قول الحنفيين إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا على الندب . قال أبو محمد : هذا كذب بحت ; لأن في الخبر { أنت حر ، من مثل به فهو حر } [ ص: 204 ] وهلا قلتم مثل هذا في قوله صلى الله عليه وسلم : { من ملك ذا رحم محرمة عليه فهو حر } واللفظ واحد .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه قيمته ؟ قلنا : هبكم قد صح لكم ذلك - وهو الكذب بلا شك - فأعتقوه ثم أعطوه قيمته ، بل هذا خلاف آخر جديد منكم لما صححتم وأنتم تنكرون على الشافعي ما ذكر : أنه بلغه من عدد تكبير النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة ، وبعثته لقتل أبي سفيان ، وهما حكايتان مشهورتان قد ذكرهما أصحاب المغازي ، ولم تعيبوا على محمد بن الحسن هذه الكذبة التي لم يشاركم فيها أحد ، ثم عملها أيضا باردة عليه لا له .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : لعل عمر أعتقه لغير المثلة . فمجاهرة قبيحة ، لأن نص الخبر عن عمر " أنها شكت إليه أنه أحرقها فأعتقها وجلده ، وقال له : ويحك أما وجدت عقوبة إلا أن تعذبها بعذاب الله " . وذكروا أيضا : ما روينا من طريق معمر عن رجل عن الحسن : أشعل رجل وجه عبده نارا فأتى عمر بن الخطاب فأعتقه ، ثم أتي عمر بسبي فأعطاه عبدا ، قال الحسن : كانوا يعتقون ويعاقبون - يعني يعطيه لما أعتقه عقبة مكانه ؟ فقلنا : هذا مكسور في موضعين . رجل لم يسم عن الحسن ، ثم الحسن عن عمر ، ولم يولد إلا قبل موت عمر بسنتين ، ثم هبك أنه صح فافعلوا كذلك ، ويا سبحان الله يكون ما احتجوا فيه بعمر مما لم يصح عنه من أنه جلد في الخمر ثمانين حدا ، وأنه أخذ الزكاة من الخيل ، وورث المطلقة ثلاثا في المرض : حجة ، ولا يكون ما جاء عن عمر من عتق الممثل به حجة هذا التحكم بالباطل في دين الله تعالى . ويجعل المالكيون ما روي عن عمر في هذا حجة ، ولا يجعلون حكمه في حديث الضحاك ، وعبد الرحمن بن عوف وسائر ما خالفوه فيه حجة .

                                                                                                                                                                                          وذكرنا أيضا ما روينا من طريق البزار عن إبراهيم بن عبد الله عن سعيد بن أبي مريم عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن ربيعة بن لقيط حدثهم { أن عبد الله بن سندر [ ص: 205 ] حدثه عن أبيه أنه كان عبدا لزنباع بن سلامة وأنه خصاه وجدعه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فأغلظ القول لزنباع وأعتقه } - فابن لهيعة لا شيء ، والآن صار عند الحنفيين ضعيفا ، وكان ثقة في رواية الوضوء بالنبيذ ، ألا تبا لمن لا يستحي ؟ ومن طريق العقيلي نا محمد بن خزيمة نا عبد الله بن صالح كاتب الليث عن الليث عن عمرو بن عيسى القرشي الأسدي عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس جاءت جارية إلى عمر وقد أحرق سيدها فرجها فقالت : إن سيدي اتهمني فأقعدني على النار حتى أحرق فرجي فقال لها عمر : هل رأى ذلك عليك ؟ قالت : لا ، قال : فاعترفت له ؟ قالت : لا ، قال عمر : علي به ، فأتي به ، فقال له : أتعذب بعذاب الله ؟ والذي نفسي بيده لو لم أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { لا يقاد مملوك من مالك ولا ولد من والد } لأقدتها منك ، ثم برزه فضربه مائة سوط ، ثم قال : اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى ، وأنت مولاة الله ورسوله ، أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { من حرق بالنار ، أو مثل به فهو حر ، وهو مولى الله ورسوله - } عبد الله بن صالح ضعيف ، وعمرو بن عيسى مجهول .

                                                                                                                                                                                          والعجب كل العجب أن المالكيين احتجوا بهذا الخبر في عتق الممثل به ، وفي أن لا يقاد مملوك من مالك ، ورأوه حقا في ذلك ، وخالفوه في القود من الحرق بالنار ، وقد رآه عمر حقا إلا في السيد لعبده ، والوالد لولده ، وفي أن الولاء لغير الممثل . والحنفيون ، والشافعيون رأوه حجة في أن الولد لا يقاد له من والده ، والعبد لا يقاد له من سيده ، ولم يجيزوا خلافه ، ثم لم يروه حجة في جلده في التعزير مائة ، ولا في عتق الممثل به ، فيا سبحان الله ، أي دين يبقى مع هذا العمل .

                                                                                                                                                                                          ثم عجب آخر : أنهم كلهم رأوا ما روي في خبر أبي قتادة إذ عقر الحمار وهو محل وأصحابه محرمون من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { أفيكم من أشار إليه ، أو أعانه ؟ قالوا : لا ، قال : فكلوا } حجة في منع أكل من صيد من أجله وهو محرم ، ولم يروا قول عمر هاهنا " هل رأى ذلك عليك ؟ أو اعترفت له ؟ " حجة في أن لا يعتق الممثل به إذا عرف زناه بإقرار [ ص: 206 ] أو معاينة ، ولو صح عن عمر لكان قد خالفه ابن عباس ، ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال أبو محمد : واحتجوا كما ترى بهذه العفونات الفاسدة وتركوا ما رويناه من طريق أبي داود نا محمد بن المثنى نا معاذ بن هشام الدستوائي نا أبي عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم { من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه ومن خصى عبده خصيناه } فالآن صار الحسن عن سمرة صحيفة ، ولم يصر حديث عمرو بن شعيب كونه صحيفة إذا اشتهوا ما فيها .

                                                                                                                                                                                          وقد رأى المالكيون حديث الحسن عن سمرة حجة في العهدة - وحسبنا الله ونعم الوكيل . فلما لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا شيء كان من مثل بعبده لا يجب عليه عتقه ، إذ لم يوجب عليه ذلك الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم وإنما يجب في ذلك ما أوجبه الله تعالى إذ يقول : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } . وإذ يقول تعالى : { والحرمات قصاص } . وإذ يقول تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية