الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      مسألة .

                                                                                                                                                                                                                                      هذه الآية الكريمة التي هي قوله تعالى : والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا الآية ، والآيات التي ذكرناها معها ، قد بينت أحد ركني ما يسمى الآن بالاقتصاد .

                                                                                                                                                                                                                                      وإيضاح ذلك أنه لا خلاف بين العقلاء أن جميع مسائل الاقتصاد على كثرتها واختلاف أنواعها راجعة بالتقسيم الأول إلى أصلين ، لا ثالث لهما .

                                                                                                                                                                                                                                      الأول منهما : اكتساب المال .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني منهما : صرفه في مصارفه ، وبه تعلم أن الاقتصاد عمل مزدوج ، ولا فائدة في واحد من الأصلين المذكورين إلا بوجود الآخر ، فلو كان الإنسان أحسن الناس نظرا في [ ص: 77 ] أوجه اكتساب المال ، إلا أنه أخرق جاهل بأوجه صرفه ، فإن جميع ما حصل من المال يضيع عليه بدون فائدة ، وكذلك إذا كان الإنسان أحسن الناس نظرا في صرف المال في مصارفه المنتجة إلا أنه أخرق جاهل بأوجه اكتسابه ، فإنه لا ينفعه حسن نظره في الصرف مع أنه لم يقدر على تحصيل شيء يصرفه ، والآيات المذكورة أرشدت الناس ونبهتهم على الاقتصاد في الصرف .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا علمت أن مسائل الاقتصاد كلها راجعة إلى الأصلين المذكورين ، وأن الآيات المذكورة دلت على أحدهما ، فاعلم أن الآخر منهما وهو اكتساب المال أرشدت إليه آيات أخر دلت على فتح الله الأبواب إلى اكتساب المال بالأوجه اللائقة ، كالتجارات وغيرها ; كقوله تعالى : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ 2 \ 198 ] وقوله تعالى : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ 62 \ 10 ] وقوله تعالى : علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله [ 73 \ 20 ] والمراد بفضل الله في الآيات المذكورة ربح التجارة ; وكقوله تعالى : إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ 4 \ 29 ] وقد قدمنا في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة الآية [ 18 \ 19 ] أنواع الشركات وأسماءها ، وبينا ما يجوز منها ، وما لا يجوز عند الأئمة الأربعة ، وأوضحنا ما اتفقوا على منعه ، وما اتفقوا على جوازه ، وما اختلفوا فيه ، وبه تعلم كثرة الطرق التي فتحها الله لاكتساب المال بالأوجه الشرعية اللائقة .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا علمت مما ذكرنا أن جميع مسائل الاقتصاد راجعة إلى أصلين ، هما : اكتساب المال ، وصرفه في مصارفه ، فاعلم أن كل واحد من هذين الأصلين ، لا بد له من أمرين ضروريين له : الأول منهما : معرفة حكم الله فيه ، لأن الله جل وعلا لم يبح اكتساب المال بجميع الطرق التي يكتسب بها المال ، بل أباح بعض الطرق ، وحرم بعضها ; كما قال تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا [ 2 \ 275 ] ولم يبح الله جل وعلا صرف المال في كل شيء ، بل أباح بعض الصرف وحرم بعضه ; كما قال تعالى : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة [ 2 \ 261 ] وقال تعالى في الصرف الحرام : إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة [ ص: 78 ] الآية [ 8 \ 36 ] فمعرفة حكم الله في اكتساب المال وفي صرفه في مصارفه أمر ضروري لا بد منه ، لأن من لم يعلم ذلك قد يكتسب المال من وجه حرام ، والمال المكتسب من وجه حرام ، لا خير فيه البتة ، وقد يصرف المال في وجه حرام ، وصرفه في ذلك حسرة على صاحبه .

                                                                                                                                                                                                                                      الأمر الثاني : هو معرفة الطريق الكفيلة باكتساب المال ، فقد يعلم الإنسان مثلا أن التجارة في النوع الفلاني مباحة شرعا ، ولكنه لا يعلم أوجه التصرف بالمصلحة الكفيلة بتحصيل المال من ذلك الوجه الشرعي ، وكم من متصرف يريد الربح ، فيعود عليه تصرفه بالخسران ، لعدم معرفته بالأوجه التي يحصل بها الربح . وكذلك قد يعلم الإنسان أن الصرف في الشيء الفلاني مباح ، وفيه مصلحة ، ولكنه لا يهتدي إلى معرفة الصرف المذكور ، كما هو مشاهد في المشاريع الكثيرة النفع إن صرف فيها المال بالحكمة والمصلحة ، فإن جواز الصرف فيها معلوم ، وإيقاع الصرف على وجه المصلحة لا يعلمه كل الناس .

                                                                                                                                                                                                                                      وبهذا تعلم أن أصول الاقتصاد الكبار أربعة : الأول : معرفة حكم الله في الوجه الذي يكتسب به المال ، واجتناب الاكتساب به ، إن كان محرما شرعا .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : حسن النظر في اكتساب المال بعد معرفة ما يبيحه خالق السماوات والأرض ، وما لا يبيحه .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : معرفة حكم الله في الأوجه التي يصرف فيها المال ، واجتناب المحرم منها .

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع : حسن النظر في أوجه الصرف ، واجتناب ما لا يفيد منها ، فكل من بنى اقتصاده على هذه الأسس الأربعة كان اقتصاده كفيلا بمصلحته ، وكان مرضيا لله جل وعلا ، ومن أخل بواحد من هذه الأسس الأربعة كان بخلاف ذلك ; لأن من جمع المال بالطرق التي لا يبيحها الله جل وعلا فلا خير في ماله ، ولا بركة ; كما قال تعالى : يمحق الله الربا ويربي الصدقات [ 2 \ 276 ] وقال تعالى : قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث الآية [ 5 \ 100 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تكلمنا على مسائل الربا في آية الربا في سورة " البقرة " ، وتكلمنا على أنواع [ ص: 79 ] الشركات وأسمائها ، وبينا ما يجوز منها وما لا يجوز في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة الآية [ 18 \ 19 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا شك أنه يلزم المسلمين في أقطار الدنيا التعاون على اقتصاد يجيزه خالق السماوات والأرض ، على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ويكون كفيلا بمعرفة طرق تحصيل المال بالأوجه الشرعية ، وصرفه في مصارفه المنتجة الجائزة شرعا ; لأن الاقتصاد الموجود الآن في أقطار الدنيا لا يبيحه الشرع الكريم ، لأن الذين نظموا طرقه ليسوا بمسلمين ، فمعاملات البنوك والشركات لا تجد شيئا منها يجوز شرعا ، لأنها إما مشتملة على زيادات ربوية ، أو على غرر ، لا تجوز معه المعاملة كأنواع التأمين المتعارفة عند الشركات اليوم في أقطار الدنيا ، فإنك لا تكاد تجد شيئا منها سالما من الغرر ، وتحريم بيع الغرر ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومن المعلوم أن من يدعي إباحة أنواع التأمين المعروفة عند الشركات ، من المعاصرين أنه مخطئ في ذلك ، ولأنه لا دليل معه ، بل الأدلة الصحيحة على خلاف ما يقول ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية