الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 306 ] { وعن جابر : أن أباه قتل يوم أحد شهيدا وعليه دين ، فاشتد الغرماء في حقوقهم ، قال : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم أن يقبلوا ثمرة حائطي ويحللوا أبي ، فأبوا ، فلم يعطهم النبي صلى الله عليه وسلم حائطي وقال : سنغدو عليك ، فغدا علينا حين أصبح ، فطاف في النخل ودعا في ثمرها بالبركة ، فجددتها فقضيتهم وبقي لنا من ثمرها } وفي لفظ : أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود ، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره ، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له إليه ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلم اليهودي ليأخذ ثمرة نخله بالذي له فأبى ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم النخل فمشى فيها ثم قال لجابر : " جد له فأوف له الذي له " ، فجده بعدما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوفاه ثلاثين وسقا وفضلت سبعة عشر وسقا رواهما البخاري )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( فجددتها ) بالجيم ودالين مهملتين ، والجداد : صرام النخل والحديث فيه دليل على جواز المصالحة بالمجهول عن المعلوم ، وذلك ; لأن { النبي صلى الله عليه وسلم سأل الغريم أن يأخذ ثمر الحائط وهو مجهول القدر في الأوساق التي له وهي معلومة } ، ولكنه ادعى في البحر الإجماع على عدم الجواز فقال ما لفظه : مسألة : ويصح بمعلوم عن معلوم إجماعا ، ولا يصح بمجهول إجماعا ولو عن معلوم ، كأن يصالح بشيء عن شيء ، أو عن ألف بما يكسبه هذا العام ا هـ فينبغي أن ينظر في صحة هذا الإجماع ، فإن الحديث مصرح بالجواز وقال المهلب : لا يجوز عند أحد من العلماء أن يأخذ من له دين تمر تمرا مجازفة بدينه لما فيه من الجهل والغرر ، وإنما يجوز أن يأخذ مجازفة في حقه أقل من دينه إذا علم الآخذ ذلك ورضي ا هـ وهكذا قال الدمياطي وتعقبهما ابن المنير فقال : بيع المعلوم بالمجهول مزابنة ، فإن كان تمرا نحوه فمزابنة وربا ، لكن اغتفر ذلك في الوفاء وتبعه الحافظ على ذلك فقال : إنه يغتفر في القضاء من المعاوضة ما لا يغتفر ابتداء ، لأن بيع الرطب بالتمر لا يجوز في غير العرايا ، ويجوز في المعاوضة عند الوفاء ، قال وذلك بين في حديث الباب ا هـ

                                                                                                                                            والحاصل أن هذا الحديث مخصص للعمومات المتقدمة في البيع القاضية بوجوب معرفة مقدار كل واحد من البدلين المتساويين جنسا وتقديرا فيجوز القضاء مع الجهالة إذا وقع الرضا ويؤيد هذا حديث أم سلمة السالف ، فإنها وقعت فيه المصالحة بمعلوم عن مجهول والمواريث الدارسة تطلق على الأجناس الربوية وغيرها ، فهو يقضي بعمومه أنها تجوز [ ص: 307 ] المصالحة مع جهالة أحد العوضين وإن كان المصالح به والمصالح عنه ربويين ، ولكن لا بد من وقوع التحليل كما هو مصرح به في الحديثين وقد استدل المقبلي في الأبحاث بهذا الحديث على جواز صرف الفضة بالفضة مع التصريح بتطييب الزائد ، وأنه لا يلزم من ذلك إبطال المقصد الشرعي في الربا ; لأن كل حيلة توصل بها إلى السلامة من الإثم فهي جائزة وإنما المحرم الحيلة التي توصل بها إلى إبطال مقصد شرعي ، قال : فعلى هذا يجوز الصرف للقروش بالمحلقة وهما ضربتان كبيرة وصغيرة ونحو ذلك مما دعت الضرورة إليه قال : ولنحو ذلك رخص في بيع العرية ، وإلا فكان يمكن بيع التمر بالدراهم ثم شراء رطب بالدراهم ، أما لو كان الغرض طلب التجارة والأرباح كالصيارفة فلا يجوز إلى آخر كلامه وصرح أيضا بأنه لا حاجة في الصرف إلى تكلف شراء سلعة ثم بيعها كما في حديث تمر الجمع والجنيب السالف ، قال : ; لأن ذلك يلحق بالممتنع للضرورة إليه في أكثر الأحوال وغالبها ففيه غاية المشقة وأنت خبير بأن الحديث ورد على خلاف ما تقتضيه الأصول فلا يجوز أن يجاوز به مورده وهو صورة القضاء فلا يصح القياس وهذا على فرض عدم صحة الإجماع على خلاف ما يقتضيه الحديث فإن صح فالعمل به في تلك الصورة المخصوصة لا يجوز ، فكيف يصح إلحاق غيرها بها ؟ وأيضا خبر القلادة السالف مشعر بعدم جواز بيع الفضة بالفضة ، وإن وقعت المراضاة والمباراة ، فهذا القياس الذي عول عليه فاسد الاعتبار ، فإن قال : إن صرف الدراهم بالقروش يحتاج إليه كل أحد وتدعو الضرورة إليه ، بخلاف بيع الفضة التي ليست بمضروبة بمثلها ، فنقول : هذا تخصيص بمجرد الحاجة والمشقة ، ومثل ذلك لا ينتهض بتخصيص النصوص ، ولا سيما مع إمكان التخلص من تلك الورطة بأن يشتري بأحد البدلين عينا ويبيعها بالنقد الآخر كما أرشد إليه الشارع في قضية تمر الجمع والجنيب ، فإن بهذه الوسيلة تنتفي الضرورة الحاملة على ارتكاب ما لا يحل ، ولو كان مجرد حصول المشقة مجوزا لمخالفة الدليل ومسوغا للمحرم لكان في ذلك معذرة لمن لا رغبة له في القيام بالواجبات ; لأن كثيرا منها مصحوب بالمشقة كالحج والجهاد ونحوهما




                                                                                                                                            الخدمات العلمية