[ ص: 360 ] قوله : ( فويل لمن ضاع له في القدر قلبا سقيما - وفي نسخة : فويل لمن صار قلبه في القدر قلبا سقيما - ، لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرا كتيما ، وعاد بما قال فيه أفاكا أثيما ) .
ش :
nindex.php?page=treesubj&link=29559القلب له حياة وموت ، ومرض وشفاء ، وذلك أعظم مما للبدن . قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=122أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها [ الأنعام : 122 ] . أي كان ميتا بالكفر فأحييناه بالإيمان .
nindex.php?page=treesubj&link=30481فالقلب الصحيح الحي إذا عرض عليه الباطل والقبائح نفر منها بطبعه وأبغضها ولم يلتفت إليها ، بخلاف
nindex.php?page=treesubj&link=29557القلب الميت ، فإنه لا يفرق بين الحسن والقبيح ، كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : هلك من لم يكن له قلب يعرف به المعروف والمنكر .
وكذلك القلب المريض بالشهوة ، فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه .
ومرض القلب نوعان ، كما تقدم :
nindex.php?page=treesubj&link=29564مرض شهوة ،
nindex.php?page=treesubj&link=29561ومرض شبهة ، وأردؤهما مرض الشبهة ، وأردأ الشبه ما كان من أمر القدر . وقد يمرض القلب ويشتد مرضه ولا يشعر به صاحبه ، لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها ، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته ، وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح ، ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده
[ ص: 361 ] الباطلة . فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه ، وتألم بجهله بالحق بحسب حياته و :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ما لجرح بميت إيلام
وقد يشعر بمرضه ، ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها ، فيؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء فإن دواءه في مخالفة الهوى ، وذلك أصعب شيء على النفس ، وليس له أنفع منه .
وتارة يوطن نفسه على الصبر ، ثم ينفسخ عزمه ولا يستمر معه ، لضعف علمه وبصيرته وصبره ، كمن دخل في طريق مخوف مفض إلى غاية الأمن ، وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف وأعقبه الأمن ، فهو محتاج إلى قوة صبر وقوة يقين بما يصير إليه ، ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق ولم يتحمل مشقتها ، ولا سيما إن عدم الرفيق واستوحش من الوحدة وجعل يقول : أين ذهب الناس فلي أسوة بهم ! وهذه حال أكثر الخلق ، وهي التي أهلكتهم . فالبصير الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق ولا من فقده ، إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=69الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا [ النساء : 69 ] .
[ ص: 362 ] وما أحسن ما قال
أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة - في كتاب ( الحوادث والبدع ) : حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة ، فالمراد لزوم الحق واتباعه ، وإن كان المتمسك به قليلا والمخالف له كثيرا ، لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، ولا ننظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري رحمه الله أنه قال : السنة - والذي لا إله إلا هو - بين الغالي والجافي ، فاصبروا عليها رحمكم الله ، فإن
أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى ، وهم أقل الناس فيما بقي ، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم ، ولا مع أهل البدع في بدعهم ، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم ، فكذلك فكونوا .
وعلامة مرض القلب عدوله عن الأغذية النافعة الموافقة ، إلى الأغذية الضارة ، وعدوله عن دوائه النافع ، إلى دوائه الضار .
فهاهنا أربعة أشياء : غذاء نافع ، ودواء شاف ، وغذاء ضار ، ودواء مهلك .
[ ص: 363 ] فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي ، على الضار المؤذي ، والقلب المريض بضد ذلك .
[ ص: 360 ] قَوْلُهُ : ( فَوَيْلٌ لِمَنْ ضَاعَ لَهُ فِي الْقَدَرِ قَلْبًا سَقِيمًا - وَفِي نُسْخَةٍ : فَوَيْلٌ لِمَنْ صَارَ قَلْبُهُ فِي الْقَدَرِ قَلْبًا سَقِيمًا - ، لَقَدِ الْتَمَسَ بِوَهْمِهِ فِي فَحْصِ الْغَيْبِ سِرًّا كَتِيمًا ، وَعَادَ بِمَا قَالَ فِيهِ أَفَّاكًا أَثِيمًا ) .
ش :
nindex.php?page=treesubj&link=29559الْقَلْبُ لَهُ حَيَاةٌ وَمَوْتٌ ، وَمَرَضٌ وَشِفَاءٌ ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ مِمَّا لِلْبَدَنِ . قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=122أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [ الْأَنْعَامِ : 122 ] . أَيْ كَانَ مَيِّتًا بِالْكُفْرِ فَأَحْيَيْنَاهُ بِالْإِيمَانِ .
nindex.php?page=treesubj&link=30481فَالْقَلْبُ الصَّحِيحُ الْحَيُّ إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ الْبَاطِلُ وَالْقَبَائِحُ نَفَرَ مِنْهَا بِطَبْعِهِ وَأَبْغَضَهَا وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا ، بِخِلَافِ
nindex.php?page=treesubj&link=29557الْقَلْبِ الْمَيِّتِ ، فَإِنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ ، كَمَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=10عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَلَكَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَلْبٌ يَعْرِفُ بِهِ الْمَعْرُوفَ وَالْمُنْكَرَ .
وَكَذَلِكَ الْقَلْبُ الْمَرِيضُ بِالشَّهْوَةِ ، فَإِنَّهُ لِضَعْفِهِ يَمِيلُ إِلَى مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْمَرَضِ وَضَعْفِهِ .
وَمَرَضُ الْقَلْبِ نَوْعَانِ ، كَمَا تَقَدَّمَ :
nindex.php?page=treesubj&link=29564مَرَضُ شَهْوَةٍ ،
nindex.php?page=treesubj&link=29561وَمَرَضُ شُبْهَةٍ ، وَأَرْدَؤُهُمَا مَرَضُ الشُّبْهَةِ ، وَأَرْدَأُ الشُّبَهِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْقَدَرِ . وَقَدْ يَمْرَضُ الْقَلْبُ وَيَشْتَدُّ مَرَضُهُ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ صَاحِبُهُ ، لِاشْتِغَالِهِ وَانْصِرَافِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ صِحَّتِهِ وَأَسْبَابِهَا ، بَلْ قَدْ يَمُوتُ وَصَاحِبُهُ لَا يَشْعُرُ بِمَوْتِهِ ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا تُؤْلِمُهُ جِرَاحَاتُ الْقَبَائِحِ ، وَلَا يُوجِعُهُ جَهْلُهُ بِالْحَقِّ وَعَقَائِدُهُ
[ ص: 361 ] الْبَاطِلَةُ . فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا كَانَ فِيهِ حَيَاةٌ تَأَلَّمَ بِوُرُودِ الْقَبِيحِ عَلَيْهِ ، وَتَأَلَّمَ بِجَهْلِهِ بِالْحَقِّ بِحَسَبِ حَيَاتِهِ وَ :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامُ
وَقَدْ يَشْعُرُ بِمَرَضِهِ ، وَلَكِنْ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ تَحَمُّلُ مَرَارَةِ الدَّوَاءِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا ، فَيُؤْثِرُ بَقَاءَ أَلَمِهِ عَلَى مَشَقَّةِ الدَّوَاءِ فَإِنَّ دَوَاءَهُ فِي مُخَالَفَةِ الْهَوَى ، وَذَلِكَ أَصْعَبُ شَيْءٍ عَلَى النَّفْسِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْفَعُ مِنْهُ .
وَتَارَةً يُوَطِّنُ نَفْسَهُ عَلَى الصَّبْرِ ، ثُمَّ يَنْفَسِخُ عَزْمُهُ وَلَا يَسْتَمِرُّ مَعَهُ ، لِضَعْفِ عِلْمِهِ وَبَصِيرَتِهِ وَصَبْرِهِ ، كَمَنْ دَخَلَ فِي طَرِيقٍ مَخُوفٍ مُفْضٍ إِلَى غَايَةِ الْأَمْنِ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ صَبَرَ عَلَيْهِ انْقَضَى الْخَوْفُ وَأَعْقَبَهُ الْأَمْنُ ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى قُوَّةِ صَبْرٍ وَقُوَّةِ يَقِينٍ بِمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ ، وَمَتَى ضَعُفَ صَبْرُهُ وَيَقِينُهُ رَجَعَ مِنَ الطَّرِيقِ وَلَمْ يَتَحَمَّلْ مَشَقَّتَهَا ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ عَدِمَ الرَّفِيقَ وَاسْتَوْحَشَ مِنَ الْوَحْدَةِ وَجَعَلَ يَقُولُ : أَيْنَ ذَهَبَ النَّاسُ فَلِي أُسْوَةٌ بِهِمْ ! وَهَذِهِ حَالُ أَكْثَرِ الْخَلْقِ ، وَهِيَ الَّتِي أَهْلَكَتْهُمْ . فَالْبَصِيرُ الصَّادِقُ لَا يَسْتَوْحِشُ مِنْ قِلَّةِ الرَّفِيقِ وَلَا مِنْ فَقْدِهِ ، إِذَا اسْتَشْعَرَ قَلْبُهُ مُرَافَقَةَ الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=69الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [ النِّسَاءِ : 69 ] .
[ ص: 362 ] وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي شَامَةَ - فِي كِتَابِ ( الْحَوَادِثُ وَالْبِدَعُ ) : حَيْثُ جَاءَ الْأَمْرُ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ ، فَالْمُرَادُ لُزُومُ الْحَقِّ وَاتِّبَاعُهُ ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَمَسِّكُ بِهِ قَلِيلًا وَالْمُخَالِفُ لَهُ كَثِيرًا ، لِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ الْأُولَى مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَا نَنْظُرُ إِلَى كَثْرَةِ أَهْلِ الْبَاطِلِ بَعْدَهُمْ . وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=14102الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : السُّنَّةُ - وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ - بَيْنَ الْغَالِي وَالْجَافِي ، فَاصْبِرُوا عَلَيْهَا رَحِمَكُمُ اللَّهُ ، فَإِنَّ
أَهْلَ السُّنَّةِ كَانُوا أَقَلَّ النَّاسِ فِيمَا مَضَى ، وَهُمْ أَقَلُّ النَّاسِ فِيمَا بَقِيَ ، الَّذِينَ لَمْ يَذْهَبُوا مَعَ أَهْلِ الْإِتْرَافِ فِي إِتْرَافِهِمْ ، وَلَا مَعَ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي بِدَعِهِمْ ، وَصَبَرُوا عَلَى سُنَّتِهِمْ حَتَّى لَقَوْا رَبَّهُمْ ، فَكَذَلِكَ فَكُونُوا .
وَعَلَامَةُ مَرَضِ الْقَلْبِ عُدُولُهُ عَنِ الْأَغْذِيَةِ النَّافِعَةِ الْمُوَافَقَةِ ، إِلَى الْأَغْذِيَةِ الضَّارَّةِ ، وَعُدُولُهُ عَنْ دَوَائِهِ النَّافِعِ ، إِلَى دَوَائِهِ الضَّارِّ .
فَهَاهُنَا أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ : غِذَاءٌ نَافِعٌ ، وَدَوَاءٌ شَافٍ ، وَغِذَاءٌ ضَارٌّ ، وَدَوَاءٌ مُهْلِكٌ .
[ ص: 363 ] فَالْقَلْبُ الصَّحِيحُ يُؤْثِرُ النَّافِعَ الشَّافِيَ ، عَلَى الضَّارِّ الْمُؤْذِي ، وَالْقَلْبُ الْمَرِيضُ بِضِدِّ ذَلِكَ .